من منا لا يعرف الغل الذي يتمثل في الحقد والضغن والشحناء، ويقصد به الخيانة والغش، ومن منا لا يرغب في التخلص من هذه الصفات الذميمة التي هي مبدأ كل شر وسبب كل معصية وجريمة؟! وإننا حين نذهب للصيدلية النبوية عند محمد - صلى الله عليه وسلم - نجد وصفاً للعلاج الناجع ويدعو لمن نشر هذا العلاج أن ينضِّر الله وجهه علامة لسلامة قلبه وفاء روحه؟ فما هو؟!
يقول - صلى الله عليه وسلم - (نضّر الله امرأ سمع منا حديثاً فبّلغه إلى من لم يسمعه فرُبَّ حامل فقه إلى من هو أفقه منه؛ ورب حامل فقه غير فقيه؛ ثلاثٌ لا يغل عليهن قلب مسلم: إخلاص العمل لله، ومناصحة ولاة الأمور، ولزوم الجماعة فإن دعوتهم تحيط من ورائهم). وهذه الثلاثة التي لا تجتمع مع الغل في قلب مسلم هي التي أخبرنا - صلى الله عليه وسلم - بأن الله يرضاها لنا فقال: (إن الله يرضى لكم ثلاثا: أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً، وأن تعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا، أن تنصحوا من ولاه الله أمركم). كما قال ابن تيمية رحمه الله: (فإن الله إذا كان يرضاها لنا لم يكن قلب المؤمن الذي يحب ما يحبه الله يغل عليها يبغضها ويكرهها فيكون في قلبه عليها غل بل يحبها المؤمن ويرضاها) ويؤيد ذلك رواية الدارمي للحديث بلفظ (لا يعقد قلب مسلم على ثلاث خصال إلا دخل الجنة: إخلاص العمل لله... الخ) كما قال ابن القيم رحمه الله: (لا يحمل الغل ولا يبقى فيه مع هذه الثلاثة، فإنها تنفى الغل والغش وهو فساد القلب وسخايمه فالمخلص لله إخلاصه يمنع غل قلبه ويخرجه ويزيله جملة لأنه قد انصرفت دواعي قلبه وإرادته على مرضاة ربه فلم يبق فيه موضع للغل والغش كما قال تعالى: {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} فلما أخلص لربه صرف عنه دواعي السوء والفحشاء فانصرفت عنه؛ ولهذا لما علم إبليس أنه لا سبيل له على أهل الإخلاص استثناهم (فبعزتك لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين) وقوله - صلى الله عليه وسلم - (ومناصحة أئمة المسلمين) هذا أيضاً مناف للغل والغش، فإن النصيحة لا تجامع الغل، إذ هي ضده، فمن نصح الأئمة والأمة فقد برئ من الغل وقوله - صلى الله عليه وسلم - (ولزوم جماعته) هذا أيضاً مما يطهر القلب من الغل والغش فإن صاحبه للزومه جماعة المسلمين يحب لهم ما يحب لنفسه ويكره لهم ما يكره لها، ويسوؤه ما يسوؤهم ويسره ما يسرهم وهذا بخلاف من انحاز عنهم واشتغل بالطعن عليهم والعيب والذم؛ وقوله - صلى الله عليه وسلم - (فإن دعوتهم تحيط من ورائهم) هذا من أحسن الكلام وأوجزه وأفخمه معنى، شبَّه دعوة المسلمين بالسور والسياج المحيط بهم المانع من دخول عدوهم عليهم، فتلك الدعوة التي هي دعوة الإسلام وهم داخلوها لما كانت سوراً وسياجاً عليهم أخبر من لزم جماعة المسلمين أحاطت به تلك الدعوة التي هي دعوة الإسلام كما أحاطت بهم، فالدعوة تجمع شمل الأمة وتلم شعثها وتحيط بها؛ فمن دخل في جماعتها أحاطته وشملته) وصح عن أنس - رضي الله عنه - أنه قال (كنا جلوس عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال (يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة) فطلع رجل من الأنصار تنطف لحيته من وضوئه قد تعلق نعليه في يده الشمال، قالها - صلى الله عليه وسلم - ثلاثة أيام ويطلع ذلك الرجل على مثل حاله فلما قام تبعه عبد الله بن عمرو وقال له : إني لاحيت أبي فأقسمت ألا أدخل عليه ثلاث فإن رأيت أن تؤويني حتى تمضي قال: نعم، فبات عنده ثلاثاً لم يره يقوم شيئاً من الليل غير أنه لم يسمعه يقول إلا خيراً حتى كاد يحتقر عمله وبعد الثلاث قال له عبد الله إنه لم يكن بيني وبين والدي شيء وإنما سمعت الرسول - صلى الله عليه وسلم - يقول كذا وكذا ثلاث مرات فما الذي بلغ بك ما قال رسول الله؟ فقال الرجل: ما هو إلا ما رأيت غير أني لا أجد في نفسي لأحد من المسلمين غشاً ولا أحسد أحدا على خير أعطاه الله إياه، قال عبد الله: هذه التي بلغت بك وهي التي لا نطيق).
فليكن لسان حالنا ومقالنا: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} لتسعد بالإجابة {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ} وإن قلت: فما الحيلة مع أصحاب العداوات: ولا يخلو إنسان من عدو وإن كان على رأس جبل؟ فالجواب: ذكر الله العلاج في أمرين:
الأول: العفو عن المخطئ قال تعالى: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}.
الثاني: الإحسان إليه قال تعالى: {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ، وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} وهذه لا يستطيعها إلا من وطن نفسه على الصبر ويا له من إنسان محظوظ.