| |
نوازع د. محمد بن عبد الرحمن البشر
|
|
المتسوِّلون في شوارع مدينة الرياض، وعند إشارات المرور، وفي أزقة القاهرة، وعند المساجد في الرباط، وفي أنفاق المشاة في أوروبا، وفي معظم الأماكن على هذه البسيطة، ينتشر المتسوِّلون طالبين رزقاً يستحقه بعضٌ منهم، وآخرون يمتطون صهوة جواد التسوّل رغبةً في الغنى، بعد أن تجاوز الأغلب منهم حدود الحاجة التي تضطر صاحبها إلى مذلَّة السؤال في غير حاجة. كمٌ غير يسير من أولئك المتسوِّلين الذين يمكن بعض منهم أن يسدّ حاجته بقليل من الجهد يبذل في طلب العيش الكريم، ومن خلال المساهمة الفاعلة في بناء مجتمع كريم قادر على العطاء. في زماننا هذا يتقمص المتسوِّلون أشكالاً عجيبة غريبة، راجين أن تكون تلك الهيئات مجلبة للعطف، ومدعاة للرحمة من قلوب مُلئت بالمحبة والخير والرغبة في البذل والعطاء. هناك من يسحب إحدى رجليه صادقاً أو كاذباً، وآخر يعصب عينيه أو إحداهما، ومنهم من يخفض صوته مستجدياً مع امتزاج ذلك بشيء من الدموع، ومنهم من يرفع صوته مناشداً، وشارحاً حاله وما حلَّ به من بلاء، ومقدِّماً نسخاً من صكوك، الله يعلم بمدى صحتها. في مكة المكرمة، وفي حرم الله شباب يقدِّمون أنفسهم طالبين العون، ليس بهم عاهة مانعة من العمل وعند سؤالك له عن عدم عمله مع قدرته يولّي هارباً، وباحثاً من معطٍ غير ناصح. في مكة المكرمة، وفي حرم الله نساء يقفن عند المطاعم مستجديات المارة مبلغاً لشراء فطور أو سحور، وتجدهن باقيات في أماكنهن لساعات عديدة، لجمع المال فحسب. في أزقة القاهرة هيئات غريبة عجيبة هناك من يزحف ومن يمثِّل شرَّ تمثيل، وهناك من يحدثك بآخر نكتة سمعها أو ألَّفها، وحول جوامع الرباط كذلك تجد متسوِّلين طالبين العون بعد خروج الناس من المسجد، وتجد الوجوه هي هي في كل وقت. تذكرت هذه المناظر والهيئات لمعاصري المتسوِّلين، وقارنتها بما أورده عمرو بن بحر الملّقب بالجاحظ، وهو غني عن التعريف، فلا يكاد أحدنا إلا وقد قرأ له كتاباً أو رسالة، فمن منا لم يقرأ كتاب البخلاء، أو كتاب الحيوان، أو كتاب البيان والتبيين. أورد الجاحظ في كتاب البخلاء حيلاً للمتسوِّلين، سنذكر طرفاً منها، مستبعدين ما لا يليق من فواحش القول فذكر منهم: المخطراني: الذي يأتيك في زي ناسك ويذكر لك أن فلاناً قد قوّر لسانه ثم يتثاءب فلا ترى له لساناً البتة، ولسانه كلسان الثور، ولا بد أن يكون بجانبه من يعبِّر عنه أو لوحاً أو قرطاساً قد كتب فيه قصته وحاجته. والقرسي: الذي يعصب ساقه وذراعه عصباً شديداً، ويبيت على ذلك ليلة، فإذا تورَّمت واختنق الدم، مسحه بشيء من الصابون، وقطر عليه شيئاً من سمن وأطبق عليه خرقة، وكشف بعضه، فلا يشك من رآه أن به الأكلة. والمُشعب: الذي يحتال للصبي حين يولد بأن يعميه، أو يجعله أعسم، أو أعضر، ليسأل الناس به، وربما جاءت به أمه أو أبوه فإما أن يكتسبا به وإما أن يكرياه بكراء معلوم. والعواء: الذي يسأل بين المغرب والعشاء وربما طرَّب إن كان له صوت حسن وحلق شجي. والإسطيل: وهو المتعامي، إن شاء أراك أنه متحسف العينين، وإن شاء أراك أن بهما ماء. والمزيدي: الذي يدور ومعه الدريهمات ويقول هذه قد جمعت لي في ثمن قطيفة، فزيدوني فيها، رحمكم الله، وربما احتمل صبياً على أنه لقيط، وربما طلب ذلك في الكفن. والمستعرض: الذي يعارضك وهو ذو هيئة، وفي ثياب صالحة، وكأنه قد مات من لا حياء، ويخاف أن يراه من يعرفه، ويكلمك في خفية. هذا ما أورده الجاحظ عن بعض هيئات المتسوِّلين وأساليبهم ممن كان في عصره، ويمكن مقارنتها بما هو قائم في عصرنا، وعلى القارئ الكريم المقارنة. كفانا الله وإياكم مذلَّة السؤال.
|
|
|
| |
|