| |
رأي وهب بن منبّه في الخوارج د. محمد بن سعد الشويعر
|
|
كان وهب بن منبّه الصّنعاني من خيار التابعين، وكان من حِكَمِهِ قوله: الأحمق إذا تكلّم فضحه حُمْقُهُ، وإذا سكت فضحه عيبه، وإذا عَمِل أفسد، وإذا ترك أضاع، لا علمه يعينه، ولا علم غيره ينفعه، تودّ أمّه أنها ثكلته، وامرأته أنهاعَدِمَتْهُ، ويتمنّى جاره منه الوحدة، ويجد جليسه منه الوحشة. وعن نظرته في الخوارج، يتضّح من هذه الحكاية التي أوردها الذهبيّ رواية عن علي بن المديني عن هشام بن يوسف أخبره داود بن قيس قال: كان لي صديق يقال له أبو شمر ذو خولان، فخرجت من صنعاء أريد قريته، فلما دنوت منها، وجدت كتاباً مختوماً، إلى أبي شَمِر.. فجئته فوجدته مهموماً حزيناً، فسألته عن ذلك، فقال: قدم رسول من صنعاء، فذكر أن أصدقاء لي، كتبوا لي كتاباً فضيعه الرسول: قلت: فهذا الكتاب. فقال: الحمد لله ففضه فقرأه فقلت: اقرئْنيه. وقال: لأستحدث سنّك، قلت: فماذا فيه؟. قال: ضرب الرّقاب. قلت: لعلّه كتبه إليك ناس حروريّة -هم الخوارج- في زكاة مالك، قال: وأين تعرفهم؟ قلت: إني وأصحاباً لي نجالس وهب بن منبّه، فيقول لنا: احذروا أيّها الأحداث الأغمار، هؤلاء الحروراء، لا يدخلونكم في رأيهم المخالف، فإنّهم عُرّة- شرّ- لهذه الأمّة. فدفع إليّ الكتاب فقرأته، فإذا فيه: سلام عليك، فإنّا نحمد الله إليك، ونوصيك بتقواه، فإن دين الله رشدٌ وهدى، وإن دين الله طاعة لله، ومخالفة لمن خالف سنّة نبيّه، فإذا جاءك كتابنا هذا، فانظر أن تؤدّي -إن شاء الله- ما افترض الله عليك في حقّه، تستحق بذلك ولاية الله، وولاية أوليائه والسلام. قلت له: فإني أنهاك عنهم، قال: فكيف اتّبع قولك، وأترك قول من هم أقدم منك؟ قلت فتحبّ أن أدخلك على وهب بن منبه، حتى تسمع قوله؟. قال: نعم. فنزلنا إلىصنعاء، فأدخلته على وهب، ومسعود بن عوف والٍ على اليمن، من قِبَلْ عروة بن محمد، فوجدنا عند وهب نفراً، فقال لي بعض النّفر: من هذا الشيخ؟. قلت: له حاجة. فقام القوم، فقال وهب: ما حاجتك يا ذا خولان؟ فهرّج -خلّط- وجَبُن. فقال لي وهْبٌ: عبِّر عنه، قلت: إنه من أهل القرآن والصّلاح، والله أعلم بسريرته، فأخبرني أنه عرض له نَفَرٌ من أهل حروراء، فقالوا له: زكاتك التي تؤدّيها إلى الأمراء لا تجزئ عنك؛ لأنَهم لا يضعونها في مواضعها، فأدّها إلينا. ورأيْتُ يا أبا عبدالله أن كلامك أشفى له من كلامي. فقال: يا ذا خولان، أتريد أن تكون بعد الكِبَر حَرُوْريّاً، نشهد على من هو خير منك بالضّلالة؟ فماذا أنت قائل غداً حين يقفك الله؟ ومن شهدْت عليه، فالله يشَهد له بالإيمان والهدى، وأنت تشهد عليه بالضّلالة، فأين تقع إذا خالف رأيك أمر الله، وشهادتُك شهادةَ الله؟. أخبرني ياذا خولان ماذا يقولون لك؟ فتكلّم عند ذلك وقال لوهب: إنهم يأمرونني أن لا أتصدّق إلاّ على من يرى رأيهم، ولا أستغفر إلا له، فقال: صدقْتَ، هذه محنتهم الكاذبة، فأمّا قولهم في الصدقة، فإنه قد بلغني أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر أنّ امرأة من أهل اليمن، دخلت النار في هرّة، ربطتها -حديث رواه البخاري برقم 25416-ومسلم برقم 2242-. أفإنسان -ياذا خولان- ممن يعبد الله، يوحّده ولا يشرك به، أحبّ إلى الله أن يطعمه من جوع، أو هرّة؟ والله يقول سبحانه: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا} (سورة الإنسان (8)). وأمّا قولهم: لا يُستغفر إلاّ لمن يرى رأيهم، أهم خير أم الملائكة، والله سبحانه يقول: {وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَن فِي الْأَرْضِ} (سورة الشورى (5))، فوالله ما فعلت الملائكة ذلك حتى أمروا به، فقد قال الله عنهم: {لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} (سورة الأنبياء(27))، وجاء الأمر ميسّراً:{وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا} (سورة غافر (7)). ياذا خولان: إني قد أدركت صدر الإسلام، فوالله ما كانت الخوارج جماعة قطّ، إلاّ فرّقها الله، على شرّ حالاتهم، وما أظهر أحد منهم قَوْلَه إلاّ ضرب الله عنقه. ولو مكّن الله لهم من رأيهم لفسدت الأرض، وقُطِعتْ السّبل والحج، ولعاد أمر الإسلام جاهليّة، وإذا لقام جماعة، كل منهم يدعو إلى نفسه الخلافة. مع كل واحد منهم أكثر من عشرة آلاف، يقاتل بعضهم بعضاً، ويشهد بعضهم على بعض بالكفر، حتى يصبح المؤمن خائفاً على نفسه، ودينه ودمه وأهله وماله، لا يدري مع من يكون، يقول الله سبحانه وتعالى: {وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ} (سورة البقرة (251)) وقال تعالى: {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا} (سورة غافر(51))، فلو كانوا مؤمنين لنصروا، وقال سبحانه: {وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} (سورة الصافات(173) ). فلو كانوا جندا لله لغلبوا. ألا يسعك يا ذا خولان، مِنْ أهل القبلة ما وسع نوحاً، مِنْ عَبَدةَ الأصنام، إذْ قال له قومه.{قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ} (سورة الشعراء (111))، إلى أن قال: {ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الْبَاقِينَ} (سورة الشعراء (120)). فقال ذو خولان، بعد أن أنهى وهب كلامه: فماذا تأمرني؟. فردّ عليه وهب مجيباً: انظر في زكاتك فأدِّها إلى من ولاّه الله أمر هذه الأمة، وجمعهم عليه، وعليك بطاعته، فإنّ الملك من الله وحده وبيده، يؤتيه من يشاء، وينزعه ممن يشاء، فإذا أدّيتها إلى والي الأمر، برئت ذمّتك منها، وإن كان فيها فضل، فَصلْ به أرحامك ومواليك، وجيرانك والضّيف. فقال ذو خولان: أشهَدْ أني نزلت على رأْيك، وأتبرأ من رأي الحرورية (سير أعلام النبلاء4: 553-555). فما أشبه مقالته -رحمه الله- عن الحرورية التي هي فرقة من فرق الخوارج التي أطلّتْ برأسها وفتنتها بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، مباشرة واصطلى المسلمون بنار فتنهم منذ وقعتي الجمل وصفّين، ويظهرون آراءهم بين وقت وآخر وفي أيامنا الحاضرة، عَرّى ما كان خافياً من نواياهم، من بصرّه الله منهم بنور الهداية، وأدرك مِنْ فتاواهم ودعواتهم، ما يدعو إلى شقّ عصا الطاعة، والفرقة في الصّفّ والجماعة، وإرضاء لنزعات غريبة، واستجابة لأفكار لا تستند إلى رأي شرعيّ، لا من كتاب الله، ولا من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا بدليل من أقول سلف هذه الأمة، في القرون الثلاثة المفضّلة، التي شهد رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهلها بالخيريّة، في قوله الكريم: (خير النّاس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم، ثم يأتي قوم تسبق شهادة أحدهم يمينه، ويمينه شهادته) أخرجه البخاري ومسلم والترمذي (جامع الأصول 8 :549). وقيل: إن وهب بن منبّه، اجتمع وعطاء الخراساني. فقال عطاء: يا أبا عبدالله ما هذا الذي فشى عنك في القدر؟ قال: ما تكلّمْتُ في القدر بشيء، ولا أعرف هذا، فرأيْتُ نيفاً وتسعين كتاباً من كتب الله، منها سبعون ظاهرة في الكنائس، ومنها عشرون لا يعلمها إلا القليل، فوجدت فيها كلّها: إن مَنْ وكل إلى نفسه شيئاً من المشيئة فقد كفر (ابن سعد 5 :543). من خيار النساء جاء عن الذهبيّ: أن عبدالملك بن مروان قد خطب من سعيد بن المسيِّب، ابنته لابنه الوليد، فأبى عليه، فلم يزل يحتال عبدالملك عليه، حتى ضربه مئة سوط في يوم بارد، وصبّ عليه جرّة ماء، وألبسه جبّة صوف، ثم قال عن أبي وداعه بسنده، قال: كنت أجالس سعيد بن المسيِّب، ففقدني أياماً، فلمّا جئته قال: أيْنَ كنت؟. قلت: توفيت أهلي. فاشتغلت بها، فقال: ألا أخبرتنا فشهدناها. ثم قال: هل استحدثت امرأة؟. فقلت: يرحمك الله، ومن يزوّجني، وما أملك إلا درهمين أو ثلاثة؟. قال: أنا. فقلت: وتفعل؟. قال: نعم. ثم تحمّد وصلى على النبيّ وزوّجني على درهمين. أو قال ثلاثة. فقمت وما أدري ما أصنع من الفرح. فصرت إلى منزلي، وجعلت أتفكّر في مَنْ أستدين منه، فصلّيت المغرب، ورجعت إلى منزلي، وكُنْتُ وحَدْي صائماً، فقدّمت عَشَائي أفْطر، وكان خبزاً وزيتاً. فإذا بابي يُقْرَعُ، فقلت: مَنْ هذا؟. فقال: سعيد فأفكرْتُ في كلّ من اسمه سعيد، إلاّ ابن المسيِّب، إنّه لم يُر أربعين سنة إلاّ بين بيته والمسجد، فخرجت فإذا ابن المسيِّب، فظننت أنه قد بدا له، فقلت: يا أبا محمد ألا أرسلت إليّ فآتيك؟. قال: لا.. أنت أحقّ أن تؤتى، إنّك كنت رجلاً عزباً، فتزوّجْتَ فكرهْتُ أن تبيتْتَ الليّلة وحدك، وهذه امرأتك. فإذا هي قائمة من خلفه في طوله، ثم أخذ بيدها فدفعها في الباب، وردّ الباب. فسقطت المرأة من الحياء، فاستوثقتُ من الباب. ثم وضعت القصعة في ظلّ السّراج، لكي لا تراه، ثم صعدت إلى السّطح، فرميت إلى الجيران صوتي، فجاؤوني فقالوا: ما شأنك؟. فأخبرتهم ونزلوا إليها، وبلغ أمي الأمر، فجاءت وقالت: وجْهي مِنْ وَجْهك حرام، إن مسستها قبل أن أصلحها إلى ثلاثة أيام. فأقمت ثلاثاً، ثم دخلت بها، فإذا هي من أجمل الناس، وأحفظ الناس لكتاب الله، وأعلمهم بسنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأعرفهم بحقّ الزّوج، فمكثت شهراً لا آتي سعيد بن المسيِّب. ثم أتيته وهو في حَلَقَتِهِ، فسلّمْتُ فردّ عليّ السّلام ولم يكلّمني، حتى تقوّض المجلس، فلما لم يبق غيري، قال: ما حال ذلك الإنسان؟. قلت: خيرٌ يا أبا محمد، على ما يحبّ الصديق، ويكره العدوّ، قال: إنْ رابك شيء فالعصا، فانصرفت إلى منزلي، فوجّه إليّ بعشرين ألف درهم، وكان سعيد يتاجر في الزّيت. (أوردها أبو نعيم في الحلية 2 :167-168 أيضا).
|
|
|
| |
|