هو الموت ما منه ملاذ ومهرب |
متى حط ذا عن نعشه ذاك يركب |
وقبل ذلك وبعده وخير منه قول الله تعالى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ}.
وإني امرؤ مسلم مؤمن بقضاء الله وقدره، غير أني لم أكن أحسبني أحيا ليوم لا أجد فيه الأمير سعد بن خالد، وألقاه كما تعودت كل يوم!
أستغفر الله أن أقول أو أجترح ما ليس لي بحق، إلا أن هول الصدمة ووقعها غيباني عن رشدي، فخشيت أن يتوقف العالم عن الدوران، كما وقف قلبي برهة ساعة وقع خبر وفاة سيدي ووالدي سمو الأمير سعد بن خالد بن محمد بن عبد الرحمن.
مات لي من الأعزاء كثر، وتجرعت كأس الفقد مرات، غير أن الفراق هذه المرة يبلغ الغاية في مرارة الطعم، وما المر إلا فراق سيد الشهامة وشهم السادة.
توافقت الناس، ومشاربهم شتى، على أريحية سيدي وهم ما عرفوا عنه ما عرفت، ولا عاشروه أو رافقوه كما فعلت، ولو حلفت لما حنثت أني لم أسمع منه يوماً شراً عن أي أحد، ولم أره مغضباً أو متعالياً على أي أحد، أو محتجباً عن أي أحد، أو حابساً خيره عن أي أحد حتى ولو كان لا يعرف ذلك الأحد! فكم أوقف مسيرنا في عرض الصحراء ليقدم مساعدة لمنقطع أو من تبدو عليه علامات الحاجة، ولا يفارقه حتى يطمئن أنه قد نال ما يعينه في تلك الفلاة التي لا يعلم ما يجري فيها إلا خالقها، وكم رقاب قد أعتق أو بذل جاهه لتحقيق ذلك.
قد لا يكون سعد بن خالد ممن عرف بكثرة ماله، أو مناصبه، غير أن جاهه المبذول وشفاعته المتاحة جعلته مقصد أبناء هذه البلاد من أقصاها إلى أقصاها، وجعلت مجلسه المفتوح عقب كل صلاة قبلة لذوي الحاجات، ولم يخرج من بيته أحد إلا وقد وجد منه ما يؤمل وفوق ما يؤمل.
سعد بن خالد أسطورة في الأصالة، في زمن اختلطت معادن الناس فيه يحسب كل من لقيه أن له حظوة خاصة عند فقيدنا، ويستحيل أن تجد أحداً ممن لازموه إلا ويحسب نفسه الأقرب إليه، فله مع كل واحد من أبنائه ومرافقيه حظوة، وبينهما يستحيل إلا أن تجد عناية خاصة، فقد كنت إذا شرفت بمجالسته أنعم بإقباله علي وإشعاري بالترحاب، حتى وإن كنت أراه كل يوم، وما فتىء - رحمه الله - يسألني عن أولادي وأهل بيتي في كل مرة ألقاه، ولما شرفني بتلبيته لدعوتي ليكون أول من يدخل بيتي الذي فرغت من بنائه، وكان له في ذلك أعظم الفضل، دعا أبنائي وسارهم ثم شدد عليهم بعد ذلك رافعاً صوته والكل يسمع، فهمتم ما أقول ثم قال لهم عاهدوني على ذلك، فلما سألت أبنائي بعد ذلك عما قاله لهم - رحمه الله - قالوا لي: إنه يوصينا بطاعة والدينا، وأن نرضيهما أبداً وطلب منا معاهدته على ذلك.
آه يا سيدي ما أمر الفراق، وإن لم يمض سوى أسبوع على رحيلك عنا إلا أني أحس أن كل يوم فيه يعدل دهراً، ولئن كانت آخر مرة رأيت وجهكم البشوش - رحمكم الله - فيها بعد أن فرغوا من تغسيلكم وتجهيزكم ودعاني حفيدكم الأمير عبد العزيز بن خالد لأدخل عليك وقال لي: (إن والدي يحبك) وأعرف محبتك لوالدي فادخل وسلم عليه، فما وجدت أمامي إلا تلك البشاشة والنور الذي هو أبداً سعد بن خالد، لئن كانت تلك آخر مرة أرى فيها ذلك الكوكب الدري فإني ما زلت أراك في أبنائك من بعدك خالد ومحمد وبندر وسلطان الذين رأوا سعد بن خالد في قلوب تلك الجموع التي تقاطرت من نواحي المملكة ومن خارجها منذ اليوم الأول لنبأ رحيل سيدنا، وسأراك في مجلسك العامر الذي لن يغلق.
أعزي كل ذوي سيدي وفيه أعزى، وأذكره ما حييت، وأنى لمثلي أن ينسى، وأقدمه في دعواتي وهو في دعائي الأولى.
|