| |
خواطر من وحي الصيام د. عبدالرحمن بن سليمان الدايل
|
|
يحفل شهر رمضان المبارك بالعديد من الدروس والعظات التي ترتبط بهذا الشهر الفضيل؛ فهو شهر الصوم وشهر القرآن وشهر الرحمة والمغفرة والعتق من النار، وهو شهر الصبر، والصبر جزاؤه الجنة، وهو شهر التقوى وشهر الخير، ويكفي ذلك الشهر قدراً ما ورد فيه من أحاديث نبوية ترفع قدره وتعلي مكانته بين الشهور، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لما حضر رمضان: (قد جاءكم شهر مبارك، افترض الله عليكم صيامه، تفتح فيه أبواب الجنة، وتغلق فيه أبواب الجحيم، وتغل فيه الشياطين، فيه ليلة خير من ألف شهر، من حرم خيرها فقد حرم) رواه أحمد والنسائي والبيهقي. وكلما أعاد الله بكرمه علينا شهر رمضان كل عام تتجدد الهمم وتشتد العزائم للفوز بخيرات هذا الشهر الكريم طمعاً فيما عند الله من الثواب والمغفرة والرضوان بعد أن أخبرنا الرسول صلى الله عليه وسلم (أن من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه) رواه أحمد والبيهقي. وتجدُّد الهمم في رمضان يرتبط دائماً بنزوع الصائم نحو الخير وطرقه أبوابه والسير في دروبه ليتوافق ذلك مع الهدف الأسمى من الصوم الذي جاء في قوله تعالى (لعلكم تتقون) بما تحمله كلمة التقوى من صفات وسلوكيات تزكو بها نفس الإنسان، ويتهذب بها سلوكه، وتستقيم بها تصرفاته وأفعاله على طريق الخير والفلاح؛ ما يجعله في وقاية مما يصيبه من علل وما يتعرض له من آفات خلقية وجسدية. فالصيام مدرسة بمعنى الكلمة، فيها يتم تصحيح المفاهيم الخاطئة، وفيها يتعود المسلمون على ضبط النوازع والرغبات وترشيد السلوك في حياتهم بما يحثهم على جميع أنواع الخير والصلاح، فالصوم مدرسة تربوية للنفس البشرية، تسمو فيه نحو الكمال، وتأتي فيه من السلوك ما يصلح حال المسلم في الدنيا ويجعله من الفائزين برحمة الله في الآخرة. وإذا كان شهر رمضان يأتي هذا العام وقد اشتدت حملات أعداء الإسلام عليه، تحاول بزيفها وضلالها أن تنال منه، فإذا بها تقلب في أقوال السفهاء والمرتدين الحاقدين تأخذ منها وتقتبس من غير تمحيص أو تحليل لتحاول وضع الشكوك فيما هو يقين، وتبذر بخبث بذور الظلام في وضح شمس النهار، فإن هذا الشهر الكريم فيه من الدروس والعظات ما يتكفل بالرد عليهم ودحض افتراءاتهم وبيان مدى زيغها وزيفها وضلالها، ولم أكن أريد أن أتعرض لمثل تلك الأحقاد فنحن أمة ترتفع عن ذلك غير أن هذا الشهر الفضيل يجيب في بعض دروسه عن تساؤل غريب يثيره أعداء الإسلام فيقولون ما الجديد الذي أتى به محمد صلى الله عليه وسلم؟.. وكأن إجابة هذا التساؤل الحاقد تأتي على ألسنة الأطباء الأجانب عما يستفيده الصائم في رمضان من وجهة نظر أطباء الغرب فيقول أحدهم (لماذا الصوم؟)، فيجيب: لتخفيف الوزن بأسرع وأسهل طريقة، ولنعطي أجهزة الجسم فترة راحة مناسبة، ولتنظيف أجسامنا وتطهيرها بإخراج السموم منها، ولنترك لأجسامنا فرصة كي ترمم نفسها بنفسها، ولنعالج به عدداً من الأمراض الشائعة، ولنتخلص به من التوتر النفسي، ولنصقل به الحواس ونوقظ به المواهب، ولنكتسب به القدرة على ضبط النفس والسمو الروحي، فتتحسن بذلك أجسامنا وعقولنا وتتباطأ عملية السير نحو الشيخوخة. بمثل هذا يجيب الطب الغربي عن بعض ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم ويتعلق بالصيام الذي تتجلى الحكمة منه على مر الأزمان والعصور، وتبدو جلية واضحة مع تقدم العلوم وارتقاء العقل البشري وسموه بعيداً عن الحقد والتعصب، وصدق ربنا القائل: {وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} «6» سورة سبأ. وكثيرة تلك الإجابات التي يسعفنا بها شهر الصوم وتلك الردود على أولئك الحاقدين، ولكننا لسنا في مجال ذلك، فنحن أمة قد نهانا ربنا سبحانه أن نتورط في محاولات تؤجج نار الخصومات فقال سبحانه: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} العنكبوت (46). وفي ظل هذا الأمر الإلهي فلن نخاطب أولئك أو نرد عليهم إلا من وحي هذا الشهر الكريم وبما يقولون إنهم يفهمونه ويقدرونه ويدّعون التفوق أو النبوغ فيه، ونقصد به التقدم العلمي، وهنا أدعوهم للوقوف قليلاً عند آثار الغضب والانفعال والشحناء وما تسببه - كما يقول العلم والطب - من زيادة إفراز الأدرينالين في الدم.. يقول علمهم إن ارتفاع هذه المادة قد يؤدي إلى نوبات قلبية تتسبب في الموت عند بعض الناس المهيئين لذلك نتيجة لارتفاع ضغط الدم وارتفاع حاجة القلب إلى الأكسجين نتيجة زيادة سرعته، وكل ذلك يأتي نتيجة الغضب والشحناء التي تتسبب أيضاً - كما يقول العلم - في التوتر النفسي وزيادة تكون الكلسترول المؤدي لأمراض الشرايين. أقول أتدرون أيها القوم بماذا جاء محمد صلى الله عليه وسلم؟ لقد أمرنا بعدم الغضب، فكانت نصيحته الموجزة لمن طلب النصح قوله صلى الله عليه وسلم (لا تغضب)، كما أمر الصائمين بالابتعاد عن الغضب والشحناء فقال عليه الصلاة والسلام (إذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب فإن سابه أحد أو قاتله فليقل: إني صائم) متفق عليه. أليست هذه دعوة إلى سلامة الجسم وسلامة الروح وسلامة العلاقات الاجتماعية بين الناس، وفيها ما فيها من حفظ لكيان المجتمع وتماسكه؟. لقد جاء الإسلام بما يرتقي بالبشرية نحو الخير والفلاح والتعاون من أجل الرخاء والسلام، ولكن المتسائلين والمشككين في حاجة للوقوف بعقلانية وموضوعية وبلا عنصرية أو أحقاد مسبقة حتى يدركوا أن ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم هو احترام للفطرة الخالصة الصادقة، وأن العبادات في الإسلام تدعيم لتلك الفطرة وترويض للنفوس والأهواء حتى تصل بالمسلم إلى الأخلاق الإنسانية الفاضلة والسلوك المستقيم الذي يضمن للبشرية الحياة الآمنة السعيدة. ومن أراد أن يدرك ذلك وغيره فليرجع إلى مدرسة الصوم ليقرأ في مناهجها ويأخذ من دروسها ما شاء إن شاء، إن أراد أن يصل إلى طريق الحق والصواب.
|
|
|
| |
|