هذا العنوان مستعار من كتاب الأستاذ الدكتور محمد محمد حسين رحمه الله، وموضوع الكتاب أعمّ وأوفى مما سأتطرق له، ولن أدخل إلا من أضيق أبوابه، فكلماتي في هذا الموضوع لا تملك جواز سفر تتخطى به حدود وطني، ولا أريد لها ذلك مادمت معترفاً بحق هذا الوطن، وما دامت سهام المغرضين والحاقدين تنطلق إليه -بهتانا وزورا- وإن كانوا يعيشون في كنفه ويستظلون بظله الوارف الطويل، فبتوفيق من الله عز وجل ثم بعزيمةٍ وشجاعة وحنكة وصبر وحَّد الملك عبدالعزيز رحمه الله هذا الوطن المترامي الأطراف المختلف المذاقات والمشارب والمذاهب والأفكار، وشيدت الدولة بجميع مؤسساتها حصوناً عالية منيعة من المنجزات والمكتسبات في كل مدينة وقرية، نشكر الله الذي هيأ لنا جميع مقوماتها، ثم نشكر حكومتنا الرشيدة على ما قامت به وتقوم به من أعمال جليلة ومشاريع عظيمة، وقد شيدت هذه الحصون والقلاع ورفعتها عالية في زمن قياسي لم نر مثله في تاريخ الأمم والشعوب، ولا زلنا نطلب المزيد والعلو والمنعة لجميع مكتسباتنا في مرافق حياتنا كلها، ولا زالت الدولة حفظها الله تحقق منجزات جديدة يجني ثمارها وينعم بها المواطن والمقيم على حد سواء، مما يوجب عليهم جميعا الحفاظ عليها والعناية بها والتعاون مع الدولة في صيانتها وحراستها.
ولكن المواطن الغيور بدأ يرقب بعض الظواهر الغريبة، وهي وإن كانت سطحية ولا زالت في طفولتها إلا أنها بدأت تغوص إلى الأعماق لتكدر ماء النهر الصافي الذي يشرب منه هؤلاء جميعاً في هذا البلد الطيب، ذلك لأن الأعداء والطامعين والحاقدين والحساد لن تنام لهم عين وهم يرون ما تنعم به هذه البلاد من الأمن ورغد العيش وتطبيق شرع الله وأحكامه والتكافل والتلاحم بين الراعي والرعية من جهة وبين أطراف الرعية على اختلاف أفكارهم وثقافاتهم.
ونحن نفخر بذلك كل الفخر، وقد نادينا وننادي العالم من شرفات هذه الحصون والقلاع للعيش معنا والتعاون والمشاركة في بناء ذلك كله والمحافظة عليه، وقد هيأت الدولة حفظها الله فرص العيش للجميع في ظل هذا التعاون والمشاركة والبناء، ويسرت أنظمتها وقوانينها لذلك كله، فتوافد علينا كثير من الجنسيات بعالمهم وجاهلهم وصالحهم وطالحهم وذكرهم وانثاهم فقطفوا معنا ثمرة هذا البناء والمشاركة، ولا ضير في ذلك ولله الحمد فالخير عام وكثير، وقد كان من هؤلاء الوافدين من اعترف بفضل الدولة فزرع حبها وحب هذا الوطن في سويداء قلبه، وحافظ على مكتسباته وثوابته ولهج لسانه صباحاً ومساء بشكر حكومته وشعبه - كما نسمع من بعضهم - ولهؤلاء وأمثالهم جزيل الشكر والتقدير والاحترام وحسن الضيافة، ومنهم دون ذلك خلطوا عملاً صالحاً بآخر سيئ، وآخرون من ذوي النفوس المريضة جرهم الجشع إلى البحث عن الكسب المادي وإن كان حراماً، وانزلق بهم الطمع واغتنام فرصة البقاء في هذا البلد في تصورهم الخاطئ إلى البحث عن الثراء العاجل وإن كان غير مشروع، فسلكوا طرقا معوجة حالكة الظلام، ينفلتون فيها أحيانا من عين الرقيب وإن كانت يقظة وحريصة ليصلوا إلى مستنقعات جرائمهم النتنة فيخوضوا فيها للبحث عن متطلباتهم ويصطادوا أطماعهم في مائها الكدر تحت جنح الظلام وفي ظل التعاطف معهم أو تقدير ظروفهم القاسية ليبيعوها على بني جلدتهم في أسواق الرذيلة واللصوصية.
هؤلاء وجرائمهم المتعددة والمتنوعة من سرقة البيوت والمزارع والمحلات التجارية والسيارات وتهريب المخدرات واعتداء اللصوص على ضحاياهم في وضح النهار وتزوير العملة والأوراق والمستندات والتحايل والغش في المواد الغذائية وغير ذلك مما يكدر صفو أمننا ويقض مضاجع المخلصين منها، كلها وما شابهها تمثل حرباً ضروساً على مجتمعنا، حربا يتسلل فيها المحاربون إلى حصوننا الاجتماعية الأمنية والاقتصادية والأخلاقية، وإلى ثوابتنا وأنظمتنا، بل إلى الإنسان نفسه وإلى الوطن والدين، ومن أهم هذه الحصون التي يرمونها ويقذفون عليها سهام حقدهم وطمعهم (حصن الأمن) حتى وإن كانوا يعيشون في أروقته التي اتسعت لهم، وقدمت لهم صنوف معيشتهم في أطباق من ذهب لم يحلموا بها طيلة حياتهم، لانهم يدركون أن الأمن هو الوقود الذي يمد سفينة الحياة بالطاقة والحيوية، والمحور القوي الذي تدور حوله عجلة التقدم والرقي لكل المجتمعات وأن من أصبح آمنا في سربه معافى في بدنه فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها، وأن الخوف في أي مجتمع من المجتمعات خرق واسع في أسفل هذه السفينة لا يرقعه إلا الضرب بيد من حديد لتوطين دعائم الأمن.
وقد أثبتت تجارب هذه الدولة المجيدة منذ نشأتها إلى عهد خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز وفقه الله الذي أكد في يوم بيعته الميمونة أن القرآن دستوره، أثبتت ان تطبيق الشريعة الإسلامية هو الكفيل بتوطين دعائم الأمن الذي نعيش في كنفه اليوم، ومن قدر له السفر خارج بلادنا أو قرأ واقعنا قبل توحيد المملكة على يدي الملك عبدالعزيز رحمه الله أدرك مساحة مظلة الأمن والأمان التي نعيش تحتها ونتفيأ ظلالها، وأدرك ما تقوم به حكومتنا الرشيدة من بذل المال والعتاد والرجال في سبيل الحفاظ على هذه المظلة الوارفة الظلال، فوزارة الداخلية مشكورة قد استنفرت جميع قطاعاتها بكل طاقاتها ومعها المؤسسات الحكومية والمواطنون، فنقاط التفتيش في كل مكان، وأمن الطرق يطيح كل يوم بعدد من العصابات، والشرطة تقبض على أعداد مذهلة في مداهماتها، والأمن العام يعتقل أعداداً لا يستهان بها، والمراقبون السريون ينتشرون قبل هذه المداهمات وبعدها، ومراكز المعلومات تسجل وتلاحق النتائج، والأمراء والمحافظون ورؤساء المراكز والمواطنون يبذلون جهودهم، ولهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر دور فاعل كبير يغطي مساحة واسعة في هذا المجال بدعم غير محدود من حكومتنا الرشيدة وتوجيه ورعاية خاصة من صاحب السمو الملكي الأمير نايف بن عبدالعزيز حفظه الله، واجتهاد ومثابرة من رجالها المخلصين، عيون ساهرة تراقب كل حركة في هذا الكيان، وأولياء أمر ننام وهم مستيقظون وأموال تبذل رخيصة في سبيل بناء هذه المكتسبات والحفاظ عليها وتركيز أمني منقطع النظير، لان هذا الوطن ثمين وغال جدا على كل مخلص من أبنائه بحكومته ومواطنيه والمقيمين فيه وبمقدساته وإنجازاته المتلاحقة وعطاءاته المتكررة.
ومع هذا ومع كل الجهود المبذولة التي لا يتطرق الشك إلى كفاءتها، لا يستطيع المخلص المحب لهذا الوطن أن يغمض عينيه عما يجري على أيدي بعض الوافدين، ومما يؤسف له وينكأ قروح أفئدة المخلصين أن هؤلاء قد وجدوا من بني جلدتنا من يحمل لهم المصابيح في طرقهم المظلمة بعلم أو جهل، أو بعواطف جياشة ضلت طريقها الصحيح، أو بطمع غاشم يجرف ثوابت هذا الإنسان وأخلاقياته ووطنيته، هؤلاء جميعاً هم الذين يهددون جميع حصوننا ويضربون بمطارق طمعهم مكتسباتنا، ويقدمون جميع اصلاحاتنا حطبا لجشعهم وحقدهم، هؤلاء هم المرض الخطير الذي يسري اليوم في مجتمعنا كما تسري النار في هشيم الحطب ودقاقه.
هؤلاء هم العقبة الكأداء التي تعترض مسرة سفينتنا في بحر تتلاطم أمواجه برياح عاتية تهب من الشرق والغرب.
هؤلاء ولست مبالغا ولا متعصبا ولا أنانيا، هم الذين يحاولون بكل امكاناتهم أن يخطفوا السفينة من طريقها إلى مرفأ الأمان ليسرقوا ما فيها ويشبعوا رغباتهم الحاقدة (ويحولوا) ما فيها إلى بلدانهم، هؤلاء هم الأعداء، والمؤلم أنهم يحاربوننا فوق أرضنا وداخل حصوننا وبسلاحنا ويواجهوننا بأنظمتنا وقوانيننا حينما يتستر عليهم من لا يرقب فيها إلاً ولا ذمة، فلا يراعي حقوق الوطنية والجنسية، ويعميه الطمع والجشع عن دينه ومصالح وطنه وحقوقه ومراعاة أنظمته وقوانينه، وهو في كل يوم يسمع نداءات وزارة الداخلية وحث جميع المواطنين على التقيد بالأنظمة والتعاون مع رجال الأمن للقضاء على هذه الظاهرة الخطيرة.
والأخطر في الأمر أن هذا المتستر عليهم قد يكون من بني جلدتهم ممن حصل على الجنسية السعودية، فقد يتستر على مجموعة كبيرة من بني جنسه أو من غيرهم مقابل عائد شهري يتقاضاه من كل واحد منهم، وإن كان ذلك على حساب هذا الوطن ومدخراته.
ونموذج واحد فقط سمعته من إحدى حلقات برنامج (أمن وأمان) المذاعة من القناة الأولى في التلفزيون السعودي في شهر رجب من هذا العام 1427هـ يجلو ما على بعض العيون من الغبش ويمد النظرات القاصرة إلى آفاق بعيدة تتعدى مساحات العواطف والتحايل وعدم المبالاة من بعض المواطنين والمقيمين، هذا النموذج والعهدة على البرنامج المذكور المشكور على جميع حلقاته وحسن اختيار طروحاته يتلخص في أن امرأة حصلت على الجنسية السعودية تملك أربعين محلاً تجارياً وتحت كفالتها مائتا عامل من جنسيتها الأولى، وأظن أمثال هذه المرأة لو سئلوا عن هذه المحلات وعن هؤلاء المكفولين لا يعرفون عنهم شيئاً.
الأمر خطير أيها القراء، بل أيها المسؤولون، ومن ظن أني مبالغ جرته عاطفته وتحكمت في عنان قلمه فليقرأ بتمعن وحسٍ وطني مخلص لهذا الوطن ما تزخر به صحفنا المحلية من قوائم الجرائم والسرقات والمخالفات والتعديات وغيرها.. فإن لم يكلف نفسه عناء البحث فليقرأ معي ما سطره المخلصون في جريدة واحدة وفي عدد واحد فقط من جريدة الجزيرة الغراء وهي تنهج منهجاً وسطا مستقيما في هذه الاحصاءات وتتحسس هذا المرض الخطير وتقوم مشكورة مأجورة بإذن الله بدور الطبيب المعالج المخلص.
جاء في العدد 12388 في 5-8-1427هـ ما موجزه أن قوة المهمات والواجبات في شرطة الرياض القت القبض على 45 شخصاً من مرتكبي المخالفات الأمنية من بينهم مزورون وفلبيني يؤوي الخادمات الهاربات لممارسة الرذيلة، ووافد عربي حول مسكنه لترويج المخدرات وأسفرت الحملة عن دهم 13 منزلاً وضبط 17 شخصا يديرون 13 موقعاً لتمرير المكالمات، كما ضبط وافد عربي حول مسكنه لإيواء 5 بنغاليين من مخالفي نظام الإقامة والعمل وعثر بحوزته على سيجارة حشيش وكرت لفك الشفرات للأفلام المخلة بالآداب.
ويقول الخبر الجدير بالذكر إن قوة المهمات والواجبات الخاصة قد ألقت القبض خلال الأشهر الثلاثة الماضية على أكثر من ألفي شخص مخالف للأنظمة وعدة مخالفات أمنية أخرى بعدة مواقع داخل العاصمة وخارجها.
وفي العدد نفسه ما نصه (تمكنت فرق حرس الحدود خلال الستة الاشهر الماضية من إحباط عدة مخالفات أمنية كان من أبرزها -فقط من أبرزها- ضبط متفجرات واسلحة ومخدرات بعدة مناطق في المملكة، وأكد مصدر أمني بحرس الحدود أن الفرق أحبطت خلال الفترة من 1-1-1427هـ إلى 29-6-1427هـ دخول 141 قنبلة إلى الأراضي السعودية و2240 أصبع ديناميت و2270 ربطة سلك تفجير و250 كيلو من مادة متفجرة و5 قطع مواد متفجرة، وبين المصدر الأمني أن جهود فرق حرس الحدود ضبطت خلال الستة أشهر الماضية 166791 شخصا متسللا، كما ضبط 1271 شخصا يمارسون التهريب وعثر على 7778 كيلو من الحشيش، و1594 كيلو من الهيروين المخدر و33 كيلو من الأفيون و554 حبة مخدرة وضبط 2790967 كيلو من القات).
وفي السياق نفسه تم ضبط اسلحة وطلقات نارية ومخازن ذخيرة وزجاجات خمور بالآلاف وعلب بيرة وسيارات ودراجات نارية.
ومن لم يكتف بهذا فليطلب كفايته في بيانات قطاعات وزارة الداخلية المعنية بهذا الأمر، وعند هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وغيرهما ممن له علاقة بهذه المخالفات.
هذه هي الحقيقة بالصراحة التي عهدناها وينادي بها المسؤولون في حكومتنا الرشيدة وعلى رأسهم خادم الحرمين الشريفين وسمو ولي عهده وسمو وزير الداخلية وفقهم الله وسدد خطاهم وأدامهم ذخراً لهذا الوطن.
هذه الظاهرة وإن كانت سطحية وصغيرة إذا قيست بمثيلاتها في البلدان الأخرى، وإن كانت الجهات المعنية تحاصرها وتحاول بكل إمكاناتها القضاء عليها إلا أنها تحتاج إلى علاج ناجع يقطع دابرها ويقضي عليها ما دامت في مهدها، ويتخذ من أحكام الشريعة ثم من الأنظمة التي سنتها الدولة لمرافقها كنظام الجوازات والعمل والعمال والمرور وغيرها وأقرها ولي الأمر ووجه الجهات المعنية للعمل بها سياجا قويا منيعا يحمي حصوننا من العابثين والانتهازيين ويستفاد من التقنية الحديثة في حصر هذه المخالفات ومعرفة أصحابها وملاحقتهم وترحيلهم من البلاد وضمان عدم عودتهم ومتابعة كفلائهم والوقوف على نشاط مؤسساتهم التي تذرعوا بها لاستقدام مكفوليهم، وحبذا لو طالبتهم وزارة العمل بتقارير عن منجزاتهم وشكلت لجانا تتابع هذه التقارير.
كما يحتاج إلى أن يتصور كل مواطن أنه رجل أمن يحرس بيته الكبير الذي هيأ له هذا الأمن.
يحتاج إلى أشياء كثيرة تكبر وتتوسع مع كبر وسعة هذه المخالفات، وقبل الختام مرة أخرى نزجي جزيل الشكر والتقدير لجميع المقيمين الذين شاركوا في البناء واحترموا وتقيدوا بأنظمة هذا البلد وقوانينه، حفظ الله هذه البلاد ووفق ولاتها ومواطنيها إلى ما فيه صلاح دينهم ودنياهم، وما أريد إلا الإصلاح ما استطعت إليه سبيلاً.
|