ليس من الحق تحميل الاستعمار الأجنبي أوزار تخلفنا المادي والأدبي في عصرنا الحاضر، وليس من السائغ سرد قصص وتحليلات عن الأسباب التي أوصلت الحضارة الإسلامية اليوم إلى حالة من الركود العقلي، فليس معقولاً أن نغلق فضاءنا بالغزو الثقافي الغربي واتهامه بتغيير ملامح الوجه العربي وجعله يتكلم بلغاتهم على كافة الأصعدة، فالمفترض إذن أن نتدارس ما يهتك بنسيج أمتنا من العوامل الثقافية والاجتماعية ومن ذلك الكتاب (المثقفون الكارهون ذواتهم) الذين يبالغون في تصور الضعف والتخلف في الوضع العربي على أنها نتيجة طبيعية ثابتة في فطرة الشخصية والعقل العربي، وأنهم ليسوا إلا بدوا مجردين من أي تراث حضاري، ولا ننسى دور ذهنية (محطمي الأفكار)، تلك الذهنية التي لديها القدرة والقابلية لتحريف وتشويه مسار بعض النظريات العلمية، ليس ذلك فقط بل والقرارات الحكومية الجديدة التي للأسف يتم التفكير بها من قبلهم من بُعد وزاوية واحدة، بل زاوية حادة، هذه النوعية التي تلغي الآخرين ولا تضع لهم أي اعتبار فلا مجال لديهم للوحدة أو الاتفاق، بل يميلون إلى الانفراد في علاج معظم القضايا التي تمس المجتمع بنظرتهم الخاصة دون التفات لرؤى الآخرين (الكاتب، جريدة الجزيرة: تأملات في ذهنية محطمي الأفكار، العدد 12287).
لا شك أن المفكرين والقادة قد أسهموا في حركة التاريخ وشكلوا منعطفاته بواسطة قدرتهم على صناعة الأفكار التي تعني مجموعة القوى الكامنة لدى الإنسان فتحركه، وتوجهه نحو تحقيق أهداف استراتيجية بعيدة المدى تفيد مجتمعه وتحوله من حالة الركود وما نتج عنها من تبعية للخارج إلى حالة الإبداع والتفوق عن طريق بلورة أفكار جديدة يتم من خلالها الانطلاق إلى العالمية وإلى مصاف المجتمعات الذكية وتغيير مجرى الحياة، وأن تصبح الدول بمواردها البشرية والمادية دولاً صناعية لها وزنها في المجتمع الدولي وهذا الكلام ليس ابتعادا عن أصول المنهج العلمي ولكن التطلع إلى إيجاد معادلة اقتصادية عربية الملامح ذات تأثير قوي على الاقتصاد العالمي عن طريق توليد خزانات أفكار إبداعية في (صناعة الأفكار) وليس (حرب الأفكار) كما يريدها البعض بل نبحث عن الإنسان ونعتمد عليه، ونهيئه لتقبل العلوم الإنسانية والطبيعية لحضارات الدول المتقدمة وتفاعلها مع تراثنا الإسلامي الأصيل مع احتفاظه بشخصيته لننتج عظماء عباقرة يصنعون لمجتمعاتنا الأفكار، وأن التوظيف الذكي لقدرات الإنسان عند أسلافنا كان ثمرة لأسباب تعد بمثابة المحرك القوي للاندفاع إلى العالمية.
لدى أمتنا أفضل نموذج مر على تاريخنا المجيد وهو شخص النبي الكريم محمد صلى الله عليه وسلم وكيف أنه زرع وبعث في أبناء الأمة كيفية التعامل مع المواقف والأحداث المستجدة حيث لا نستمد قوتنا من الخارج ولكن من الداخل وما يوجد من أدوات وأشياء بطريقة إبداعية، فاستطاعوا أن يواجهوا مشكلاتهم، وأن يقدموا لتلك المشكلات حلولها المناسبة، فأقاموا حضارة عالمية ما زال العالم يقف إجلالاً أمام أعلامها وفلاسفتها وعلمائها وأدبائها، وهناك كثير من الأمثلة والحوادث في تاريخ أمتنا العربية والإسلامية وكيف تعاملت مع تلك المواقف بطريقة ركزت على (الإنسان المسلم) وعلى قدراته وإبداعاته فنتج عن ذلك (إنسان جديد)، وما قام به رسول الله من تهيئة الصحابة - رضوان الله عليهم - وخلق لديهم القابلية لصناعة الأفكار التي تناسب تراثهم وبيئتهم وليس استيرادها من الخارج وبالتالي التحرر من الاستعمار، وكيف حول الرسول خامات الإنسان الجاهلي الجامد والمنغلق فكرياً إلى عجائب العلم والصناعة الفكرية عندما اعتمد - بعد الله سبحانه وتعالى - على الإنسان وصدق وصف الشاعر حين قال: