| |
قدرة الإنسان على الحوار مرهونة بطريقته في التفكير د. صالح بن ناصر الشويرخ
|
|
ينتمي الإنسان في الطريقة التي يفكر فيها ويحكم بها على الأشياء إلى أحد فريقين: فريق التفكير التقاربي وفريق التفكير المتشعب.. ويميل صاحب التفكير التقاربي إلى البحث عن حل صحيح واحد لأي قضية أو مسألة أو مشكلة تواجهه، ويجد صعوبة كبيرة في التعامل مع تعدد الإجابات والآراء ووجهات النظر. أما صاحب التفكير المتشعب فهو قادر على توليد مجموعة من الإجابات لأي قضية تطرح أمامه، بل هو قادر في بعض الحالات على ابتكار إجابات جديدة لم يسبق لأحد أن جاء بها، فقدرته على الاستكشاف والتوسع كبيرة. ومن هنا يغلب على التفكير التقاربي الاستدلال الضيق، في حين يغلب على التفكير المتشعب الطلاقة والمرونة. وتقاس ملكة التفكير التقاربي بواسطة الاختبارات الموضوعية المقيدة التي تتطلب اختيار إجابة واحدة فقط، في حين تقاس ملكة التفكير المتشعب بالاختبارات غير المقيدة المفتوحة النهايات، ويتم عادة تقييم الأشخاص الخاضعين لهذا النوع من الاختبارات من خلال الطلاقة، أي القدرة على إنتاج عدد كبير من الأفكار في الوقت المسموح به، والمرونة ويعنى بها القدرة على إنتاج مجموعة متنوعة من الإجابات، والأصالة أي القدرة على توليد أفكار جديدة غير عادية، والتوسع أي القدرة على تطوير الأفكار الابتدائية وتوسيعها، ويتفاوت الناس كثيراً في مثل هذه المقاييس. وتشير الدراسات التي أجريت في بعض الدول الغربية والولايات المتحدة الأمريكية إلى أن أصحاب التفكير التقاربي قد لا يجيدون التفكير بطريقة متشعبة والعكس صحيح، كما أن أصحاب التفكير التقاربي قد يفضلون بعض المواد الدراسية التي تختلف عن المواد التي يفضلها الفريق الآخر. وتشير دراسات أخرى إلى أن الطلاب المتخصصين في العلوم الأدبية والإنسانية يحصلون على درجات عالية في اختبارات التفكير المتشعب، في حين يحصل الطلاب المتخصصون في العلوم الطبيعية على درجات عالية في اختبارات التفكير التقاربي. كما يربط بعض العلماء بين التفكير المتشعب والابتكار، وبين التفكير التقاربي والذكاء وهي على العموم مسألة جدلية. ويبدو أن المعلمين يستجيبون ويتفاعلون على نحو إيجابي مع الطلاب ذوي التفكير التقاربي أكثر من الطلاب ذوي التفكير المتشعب، إذ يجد المعلمون خاصة الذين يفكرون بطريقة تقاربية صعوبة في التعامل مع الطلاب أصحاب التفكير المتشعب، ولعل هذا يفسر إهمال المعلمين لهذه النوعية من الطلاب. وهذا يقود إلى قضية مدى أهمية الانسجام بين طريقة تفكير المعلم والطالب، فهناك من يرى أن هذا الانسجام ضروري وهناك من يرى أن الاختلاف مفيد شرط ألا تكون الفجوة كبيرة، ولكن يجب أن نتوقع ظهور مشكلات متعددة إذا كان المعلم يفكر بطريقة مختلفة تماماً عن الطريقة التي يفكر بها طلابه. لكن السؤال الكبير الذي يطرح نفسه: إلى أي فريق ينتمي الفرد السعودي؟ هل نحن نفكر بطريقة تقاربية أم بطريقة متشعبة؟ تعتمد طريقة الفرد في التفكير على عدة عوامل: تعليمية وتربوية وسياسية واجتماعية، وإن كنت على يقين بأن النظام التعليمي والتربوي هو الذي يلعب الدور الحاسم في توجيه طريقة المرء في التفكير. وليس من العسير ملاحظة أن نظامنا التعليمي يشجع على التفكير التقاربي، فما يطرح على الطلاب داخل القاعات الدراسية يمثل في الغالب وجهة نظر واحدة، وهي وجهة النظر التي يتبناها مؤلف الكتاب المدرسي أو المعلم، دون أن يسمح للطلاب بمخالفتها. إن الطالب الذي يخضع لنظام تعليمي يغلب عليه الطريقة التقاربية ويتدرب عليها سنوات طويلة سوف يصبح في النهاية من أصحاب التفكير التقاربي، وستموت ملكة التفكير المتشعب التي كان يتميز بها في بداية دخوله المدرسة، هذا إذا لم يكن في الأصل من ذوي التفكير التقاربي. إن نظامنا التعليمي يدفع طلابنا وطالباتنا إلى التفكير بطريقة تقاربية، ولا مكان فيه لأصحاب التفكير المتشعب، بل إن الطالب الذي يميل إلى التفكير بطريقة تشعبية سيواجه مشكلات متعددة مع معلميه ومع المناهج الدراسية وأنظمة الاختبارات. إن فرض هذا النوع من التفكير من خلال المناهج الدراسية وطرق التدريس يجعل طلابنا يتصفون بضيق الأفق، ويقتل فيهم نزعة التجديد والابتكار والاستكشاف والتقصي. وطريقة التفكير التي يسلكها المرء تصبغ جميع جوانب حياته، فصاحب التفكير التقاربي قد يجد صعوبة في تقبل الفتاوى والآراء في قضية واحدة ويشعر بالضيق وعدم الارتياح عندما يسمع رأيين مختلفين في مسألة فقهية واحدة، وقد يصل به الأمر إلى اتهام أحد العلماء بالتعقيد أو الجهل أو سوء النية أو المحاباة ونحو ذلك، رغم أن المسألة قابلة للاختلاف وليس فيها رأي قاطع، لكن هذا الشخص تعوّد على هذا الأسلوب في التفكير، فالأشياء في مخيلته إما أن تكون ذات لون أبيض أو ذات لون أسود. دون أن يكون لديه القدرة على رؤية الألوان الأخرى التي تقع بين اللونين الأبيض والأسود. لقد عانينا طويلاً من أصحاب الرأي الواحد، وآن الأوان إلى إحداث تغيير منهجي جذري في الطريقة التي نفكر فيها ونحكم بها على الأمور خاصة في القضايا الإنسانية والاجتماعية. إن نجاح الإنسان في الحوار وقدرته على تقبل تعدد الآراء مرهون بطريقته بالتفكير، فصاحب التفكير التقاربي لن تنجح معه دعوات الحوار، ومن هنا فإن ملتقيات الحوار الوطني لن تؤتي ثمارها إلا إذا سبقتها عمليات تهيئة وإعداد هذه العمليات تتمثل في تدريب الإنسان على أن يفكر بطريقة متشعبة تساعده في تفهم تعدد الآراء وتقبل تنوع وجهات النظر. إن الدعوة إلى الحوار وتقبل الرأي الآخر التي بدأنا نشعر بأهميتها لن تنجح إذا ظل النظام التعليمي المحلي على ما هو عليه، إن تغيير الطريقة التي يفكر بها الإنسان لا يمكن أن تتحقق بالنصح والإرشاد أو بحملات توعوية، ولكن ذلك يتطلب إحداث تغيير جذري في النظام التعليمي المحلي.
|
|
|
| |
|