| |
قراءات رمضانية.. في حروب الدبلوماسية الكويتية السفير: عبدالله بشارة
|
|
هكذا قدر الكويت أن تحارب بالدبلوماسية وأن تمارس دبلوماسية الكر والفر بالمفردات، وأن تضرب بالمصطلحات وتتسلّح بإيمانها بحقها وبقناعاتها، لم تهدأ منذ عهد الشيخ مبارك الصباح، تقاوم الغزوات بأساليب توفر لها الحماية، فالموقع الإستراتيجي والجغرافي جعلها تعيش في دائرة مستمرة من الضغوط والتهديدات والابتزازات والأطماع، كان الشيخ مبارك الصباح يعالج الوضع وفق مبدأ ما يسمى اليوم بالاستباقية، وكان يسعى لإجهاض التهديد في مهده، وأبرز إنجازاته قناعته بالتحالف مع بريطانيا لسد الباب في وجه النوايا العثمانية، وفي وجه خصومه الكثيرين، ذهب إلى داخل الصحراء في الصريف لتقويض خطط ابن رشيد ضده وهو المتحالف مع خصوم الشيخ مبارك. لم تهدأ الدبلوماسية الوقائية في العهود التي أعقبت حياة الشيخ مبارك، كان الشيخ أحمد الجابر أبرز الذين حاربوا بسلاح الدبلوماسية في علاقته مع دول الجوار ومع بريطانيا. وتفوّق الشيخ عبدالله السالم في حسه الإستراتيجي عندما وقَّع اتفاقية 19 يونيو 1961 مع بريطانيا مع إعلان الاستقلال، وأصر على أن تحتكر الكويت قرار طلب الدعم العسكري وقرار إخراجه من أراضيها. ويمكن القول بأن صيغة الاتفاق الذي وقَّعه الشيخ عبدالله السالم مع بريطانيا فتحت للكويت أبواب الدخول إلى الاعتراف العربي والعالمي ضد التحركات العراقية في عهد قاسم. مع التوقيع على الاستقلال، صادق الشيخ عبدالله السالم طلب الانضمام إلى الجامعة العربية وإلى الأمم المتحدة، ولم يدر في خلده بأن الكويت ستواجه تهديداً وعدواناً بالضم وإلغاء لتاريخها ولسيادتها ولشعبها، لكن تقاليد الكويت في حروب الدبلوماسية تفوَّقت، ونستذكر الآن معارك الكويت في عضوية الجامعة، وهي واقعة مثيرة ومؤلمة وتشكيلة من التراجيديا والكوميديا. في 12 يوليو 61 اجتمع مجلس الجامعة العربية لبحث طلب الكويت، والذي كان يدافع عنه بقوة وفد المملكة العربية السعودية، ويدافع عنه بشروط وفد الجمهورية العربية المتحدة، وتبقى باقي الدول تؤيِّد عضوية الكويت دون رغبة في تكسير الصحون على رأس الجامعة، وبما يراعي الخواطر العراقية، لمصالح خاصة أو خوفاً من التصدّع العربي. وكنت أقرأ مداولات الجامعة هذه الأيام بكثير من التقدير للقيادة الكويتية التي تحمّلت ما يثير الأعصاب وما يستفز الهدوء وما يدفع إلى الضجر والانسحاب، وبكثير من التقدير للموقف السعودي الصلب الذي يريد الكويت كما هي دون تحسينات، وبكثير من الإعجاب لموقف الجمهورية العربية المتحدة، الذي أوجد الأجواء المؤدية إلى عضوية الكويت وتولَّى الرد على الذين يريدون التأجيل والذين يتحركون بمصالح ولكنهم يتفوّهون بشعارات، وصنع بيئة سياسية وإعلامية داخل الجامعة العربية وخارجها لصالح الكويت، ووفق مفاهيم قومية مقبولة في حينها ولها منطق في حسابات المواجهة مع الاستعمار والإمبريالية. ولم يكن الشيخ عبدالله السالم الذي كان الموجه الحقيقي للدبلوماسية الكويتية يجهل الوضع العربي المليء بالأزمات والمتصدّع على الدوام، بل كان يقود التوجهات عبر قناعات عاقلة لها هدف واحد لا يحيد عنه وهو الحفاظ على استقلال الكويت ورفض ادعاءات قاسم. ولم يتخذ القرار بدعوة القوات البريطانية إلى الكويت إلا بعد أن وجد أنه لا خيار له أمام التهديدات مع التسليم بأن القائد لا يستطيع أن يغامر بمقدرات شعبه ولا يستطيع أن يترك نافذة قد يتسلّل منها الخصم، ولذلك جاء القرار بإنزال القوات البريطانية مؤلماً، وكما يقول السيد عبد الخالق حسونة أمام مجلس الجامعة وجد الشيخ عبدالله متأثراً للغاية وأنه اتخذ القرار الصعب لأن البديل أصعب. كان وفد الكويت إلى القاهرة برئاسة الشيخ جابر الأحمد المسؤول عن الشؤون المالية، وحظي الوفد بلقاء مع الرئيس عبد الناصر في اليوم التالي لوصوله، تقديراً من الرئيس للموقف المتكهرب على الحدود الكويتية - العراقية. كان أمام مجلس الجامعة مقترح كويتي لمعالجة الأزمة، يتكون المقترح الكويتي من شرطين هما: - أن يسحب اللواء قاسم تصريحاته التي أدلى بها في 25 يونيو 1961 ، والتي تضمنت اعتبار الكويت جزءاً من العراق. - أو أن تقدّم الدول العربية ضمانات جديدة وافية بحماية استقلال الكويت وأن ترسل قوات من الدول العربية لتحل محل القوات البريطانية لتكون بذلك ضماناً لاستقلالها ومحافظة على سيادتها وأنها مستعدة بعد ذلك إلى تقديم الضمانات الكافية لطلب إجلاء القوات البريطانية فوراً. وكان أول المتحدثين مندوب الجمهورية العربية المتحدة د. محمد حسن الزيات الذي صار فيما بعد سفيراً لمصر في الأمم المتحدة ووزيراً لخارجيها، وقد عرفته في نيويورك رجلاً عالماً خفيف الظل بعكس وزنه الجسماني، مداعباً دائماً ومحصناً دائماً بالعلم والثقافة. يقول الزيات إن الجمهورية العربية المتحدة ترفض وتستنكر أن تتوصل حكومة من الدول الأعضاء في الجامعة إلى استلحاق شعب عربي آخر مهما صغر بأي وسيلة غير وسيلة التعبير الصريح الحر النابع من الإرادة الكريمة المتوجهة للاتحاد والتعاون، أنكرت الجمهورية العربية المتحدة ذلك واستنكرته من حيث المبدأ، ثم أنكرته واستنكرته لما أدى إليه في الكويت من نزول القوات البريطانية بها، وتعلّمت الجمهورية العربية المتحدة منذ عام 1882 أن نزول القوات البريطانية أمر وخروجها أمر آخر. وهذا هو أمير الكويت يؤكّد بلسان وفد الكويت الرسمي بأنه يتعهد بأن يأمر بسحب جميع القوات البريطانية من الكويت عندما يتحقّق واحد من حلين عرضهما علينا. أن حكومة الجمهورية العربية المتحدة وهي تحيي هذا الموقف الكويتي العربي وتسجله ترى أن الحل الأول معلّق بإرادة رئيس حكومة الجمهورية العراقية وحده، وهي لذلك تسجّل هنا استعدادها التام الصادق وموافقتها الكاملة على إرسال قوات عربية إلى الكويت بناءً على طلب الكويت لما يترتب على ذلك من إخراج القوات البريطانية من المنطقة. وحكومة الجمهورية العربية المتحدة ترى أن الأمر أصبح الآن واضحاً، فمن كانت سياسته قائمة على إخراج القوات الأجنبية من بلادنا لا بد أن يوافق على هذا الحل الذي يدفع عن الشعوب العربية وعن الجامعة العربية تهديداً فهمت في أحاديث مختلفة أن كل الحاضرين هنا يحسون به كل الإحساس. وحكومة الجمهورية العربية المتحدة مستعدة للتفاهم مع دولة الكويت ومع كل الأطراف في نطاق الجامعة العربية ومع الأمين العام فيها على طبيعية وشكل جنسيات القوات العربية التي تقترحها دولة الكويت. ومن هذا الموقف الواضح الذي أخذ زمام المبادرة وتسيّد الجو داخل القاعة وهو موقف حاد وحازم وحاسم، رسم خطوط التوجه النهائي. وتحدث المندوب السعودي السيد طاهر رضوان - رجل له خبرة طويلة في الجامعة العربية محارباً قوياً وحليفاً فصيحاً وصديقاً مؤمناً، وحدَّد بأن أمام المجلس موضوعاً واحداً - هو طلب الكويت الانضمام إلى الجامعة وطلب المملكة في دعمها. واعترض المندوب العراقي - وتداخلت الأصوات وتم التأجيل. وبدأت مناورات المندوب العراقي (عبد الحسين القطيفي) في التسويف ومنها طلبه عقد جلسة لاحقة للاستماع إلى بيان سيلقيه يستغرق ساعة ونصف. وقد تم تأجيل الاجتماع إلى اليوم التالي، وهو يوم الخميس 13 يوليو 61 ، وقدَّم المندوب العراقي اقتراحاً من حكومته بتأجيل موضوع الكويت إلى أجل غير مسمى، بدلاً من الخطاب الذي وعد المجلس به، وساد الهرج والمرج وتوالت الاجتهادات وتم تأجيل الاجتماع إلى يوم 20 يوليو، وصوّتت الجمهورية العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية ضد التأجيل، بينما انتصرت الدول الداعية للتأجيل وكان الأردن والعراق وتونس الثلاثي المحرك للتأجيل. وتقول الأهرام في عددها الصادر يوم 14 يوليو 1961: إن الكويت واجهت أزمة مفاجئة من جانب دولة عربية وأحست باحتمالات التهديد الخطير تضغط عليها، في هذا الجو تحتاج الكويت إلى ضمان وإلى طمأنينة. بادرت بريطانيا إلى إجراء مظاهرة عسكرية هدفها مصالح بريطانيا، وأن التحرّك البريطاني هو استعراض القوة أمام العالم العربي وأن الجمهورية العربية المتحدة اعتبرت أن حكومة الكويت قدّرت الصالح العربي وقدّرت ضرورة حل الأزمة في إطار عربي، وأن عدم إعطاء الكويت ضمانات عربية تطمئنها حتى يمكن الوصول إلى حل عربي نهائي للأزمة كان معناه أن الكويت لم تترك فقط من الناحية العربية وحيدة في مواجهة ما أحست به من تهديد، وإنما هي أيضاً تركت وحيدة أمام الاستعمار البريطاني يفرض عليها وعلى الأمة العربية كلها الثمن الذي يريده. في 20 يوليو 1961 أصدر مجلس الجامعة العربية بإجماع الدول التسع وهي الجمهورية العربية المتحدة، السعودية، لبنان، المغرب، ليبيا، السودان، تونس، اليمن، الأردن، وانسحاب العراق قبل التصويت - القرار التالي: أولاً: أ- تلتزم حكومة الكويت بطلب سحب القوات البريطانية من أراضي الكويت في أقرب وقت ممكن. ب - تلتزم حكومة الجمهورية العراقية بعدم استخدام القوة في ضم الكويت إلى العراق. ت - تأييد كل رغبة تبديها الكويت للوحدة أو الاتحاد مع أي دولة من دول جامعة الدول العربية طبقاً لميثاق الجامعة. ثانياً: أ- الترحيب بدولة الكويت عضواً في الجامعة العربية. ب - مساعدة دولة الكويت على الانضمام إلى عضوية الأمم المتحدة. ثالثاً: تلتزم الدول العربية بتقديم المساعدة الفعَّالة لصيانة استقلال الكويت بناءً على طلبها ويعهد المجلس إلى الأمين العام باتخاذ الإجراءات اللازمة لوضع هذا القرار موضع التنفيذ. وبعد القرار تحدث محمود رياض شارحاً مفهوم الجمهورية العربية المتحدة من القرار بأن القرار يهدف إلى إجراء القوات البريطانية عن الأرض العربية بالكويت، وأن توفر الثقة لدى شعب الكويت وحكومته بتوفير ضمانات عملية للمحافظة على استقلاله وإرسال قوات عربية لطلبه لتحل محل القوات البريطانية. وفي الوقت الذي كانت الجامعة على كف عفريت بسبب أزمة المطالب العراقية بالكويت، وفي الوقت الذي تعطي الجمهورية العربية المتحدة الأولوية للانسحاب البريطاني، كان السفير البريطاني في الكويت بالتشاور مع حكومته في لندن يتبادل الأفكار حول انسحاب القوات البريطانية واستبدالها بمراقبين دوليين وإبقاء قوة رمزية بريطانية إذا تعذر ذلك، وإدخال مراقبين من الأمم المتحدة ومن الجامعة العربية لمراقبة الحدود مع العراق. وكانت الاتصالات تتركز حول البحث عن الصيغة التي تؤمّن الانسحاب البريطاني من الكويت وترضي أمير الكويت الشيخ عبدالله السالم الذي يريد الطمأنينة كما تقول الأهرام. سنتحدث الأسبوع القادم عن مصير القوة العربية وملابساتها ومصيرها.
abdullah-bishara@yahoo.com |
|
|
| |
|