معيض علي البخيتان
130 صفحة من القطع المتوسط
الهجير.. كما الهجر عنوانان لشيء لا يحتمل.. هجير القائظة حيث يشكو الحسد.. وهجر العلاقة أو الصداقة حيث يشكو القلب ويحتج العقل.. وبين الاثنين تطرح التساؤلات في انتظار إجابة محددة عن هجير شاعرنا.. وربما عن هجره.. الاثنان يلتقيان في النتيجة..
لا هجير.. كما لا هجر في البداية.. وإنما الوصل والبر من شاعرنا لأبيه: وشيء من الذكريات والشكوى.
أبتي. يا نور عينيّ البعيدة
ومدى أحلام آمالي الفريده
هاك من عمري أحاديث الصبا
وانتفاضات من الدنيا جديدة
وتبدأ الشكوى:
ألهبتني صفعات اليأس لم
أدرِ أن البيد ترويني قصيده
يرفل الدهر بها في الأرض عيده
ألف رقص قمته.. أو لن أريده
أبتي ما عدت إلا خنجراً
في قرار الأرض تُرباً أو حديده
تمنيت لو اخترت أن تكون أي شيء إلا أن تكون أداة دم جارحة.. كن شعلة تتوهج.. أو منجلا لحصاد الخير.. الوظيفة للأداة مهمة.. ويبدو وبشكل غير منتظر أن لشاعرنا صرخة دم تدوي في دنيا الصمت القاتل:
يا راكد الثأر نامت عندك القيم
واستكلب الخادع المذاق والنهم
«المذاق» هنا غير موفق.. حبذا لو أبدلها مثلاً بكلمة «محتال» أو «آفاق» لاستقامة المعنى والبيت.
يا حمرة الثأر شبي فالطراد كما
تبغين منتفضاً والخطب مضطرم
والعار لا زال يكوي من حرائرنا
محارما نُهبت.. واليوم تقتسم
يمضي في قصيدته المشحونة بالألم. وبالأمل يستثير النخوة.. ويستفز مشاعر الراكدين.. ويصل بها إلى النهاية في قوله:
الله أكبر هذا الشرق أجمعه
حمية.. نجدة الوثاب والهرم
يا قدس أقوى من الإيمان حرمتها
إني وإن ضمني القيصوم والسلم
شاعر لا يرى إلا السلام هدى
يفيض بالحب للدنيا ومن حرموا
كلنا مع سلام العدل.. لا استسلام العذل.. إسرائيل زرعت في خاصرتنا لمصالح خصومنا لا لصالحنا.. ولن يفل الحديد إلا الحديد. وإلا ضاعى فلسطين.. وأكثر من فلسطين. وضعنا معها.
شاعرنا البخيتان رسم لنا لوحة استوحاها من مذكرات معلم.. أي بخت عاشه.. وأية تجربة عاناها وعناها؟!
تغرّب مشلول الجناحين مضطراً
وآب فلا نفعاً جناه. ولا ضرا
وبات فلا عزمًا يجالده الأذى
ولا صاحب يشكو إليه ولا قدرا
ولم يُبق منه الوهم إلا حشاشة
تنازعه غثر النوى كبد حرّى
ويمضي في مر شكواه:
أشك بأني في البسيطة واحد
أغاصبها عيشي. وأحيا بها قسرا
فلا الليل يطويني أحاديث حالم
ولست على ما فيه قد أحمد المسرى
في كل هذا كفاية لا تتطلب المزيد.. أنهي مقطوعته الطويلة بهذه الأبيات الثلاثة التي لا تحتاج إلى تعليق.
فيا قارئ فيما؟ وعم أنت سائل؟
وقد جرت الأحداث من حرقتي سفرا؟
ولم يبقَ مني في تضاعيف دفتر
تخوّنه الأيام أسفع مغبرا
سوى آهة حرى. وتفكير ناقم
يكابد من غراته البؤس والضرا
إذا كانت هذه هي حال من يبني برسالته أنفساً وعقولاً كما قال شوقي.. فعلى نشئنا.. وعلى مستقبلنا السلام.
لعل الشكوى تجاوزها الزمن.. وأعيد الحق إلى صوابه.. والسيف إلى نصابه.. هذا ما نتمناه جميعاً لصالحنا ومصالحنا.
شاعرنا خرج من عزلته شاخصاً ببصره إلى هذا الكوت.. وهذا الفضاء الواسع متأملاً.. محاولاً إعطاء نظرة لذلك المشهد.
هذا الفضاء. ومده الرحب
ومراسه المتمسك الصعب
إلا خيوطاً من غرائبه
لا الفكر يدركها ولا القلب
كنه دقيق في عوالمه
مبسوطة والعائم الغهب
ويرسم لنا لحظة غروب:
وإذا الغروب احتل مفرقه
وتمايزت في أفقه السحب
بعد التلائم بين أخيلة
وجمت كما يتجهم الغرب
يجتر خلف الدهر خطوته
جيل يخب. وآخر ينبو
تطفو وتطفر من حوادثه
ما لا يطيق بحمله الندب
على هذا المنوال جاءت نظرته للكون كما يراه:
ياذا الفضاء السمح لا عتب
طفح الهوى واستسلم الألب
وتعاقرت أنغام محترب
نسي الجميل وهاله الرعب
ألقى به في كل مفترق
-للغيب- أنى ساره.. كرب
حتى إذا ما ارتد. وانحسرت
عنه مدى روح الهوى حجب
طافت مدار الكون أعينه
لا الدب يعييها ولا الوثب
إلى هنا نكتفي بهذه النظرة الكونية لشاعرنا البخيتان.
ومن الكون إلى الدهر وألاعيبه:
بين جنبي الذي لن أمجده
كبد حرى.. ونفس مجهدة
حرك الدهر بها لعبته
لا رعاه الله يشوي الأفئدة
غال مني صفو ما أملته
فاحتسيت الأمس منه أربده
لماذا هذا الاغتيال.. وهذه القسوة.. هل إنها طبيعة القوة؟!
من للهوف يلوى روحه
هم جيل عق منه أسعده
شد من أعصاب أعصابي أذى
عب صبري مائراً أو جمده
امتطى من علتي حشرجة
تتلظى من هواها أعمده
حفرت أضلاعي الفرثى أسى
كدت من لوعاتها أن أعبده
ملاحظات عابرة.. أعصاب أعصابي كمن يفسر الماء بالماء.. الأنسب أوتار أعصابي.. هذه واحدة الثاني.. الأسى المتوغل في الأضلاع الفرثى لا يدفع الضحية لأن يعبده.. وإنما ليطارده ويطرحه.. إنه نهج مواجهة ومقاومة تأبى الخنوع لجلادها «البائس الأعمى» عنوان جديد لرحلة متجددة مع شاعرنا الكريم معيض البخيتان في ديوانه «الهجير» يقول:
ترك الضجيج مصعداً ومجيلا
حران يجذبه الزمان قليلا
أفنى مطامعه تفرد همه
مذ كان ينشد في الشباب ميولا
أعمى فلا شمس تضيء له وقد
ضاء مناجع غبطة وطلولا
فرعى رحيب الكون كوة مظلم
داج يموج لأمة وغلولا
أخذ الطريق عليه فضل عباءة
غبراء تحض هيكلاً منحولا
مسكين مد عصاءه متخطياً
بعض الوعوث محاذراً وخجولا
من أن يراه على الدنية شامت
إذ يلقَ بالعذر الضعيف عذولا
على هذه الوتيرة وبهذا الفهم رصد لنا ملامح الأعمى البائس دون أن نستدل بوضوح على خطوط وخيوط حياته.. إن في مفردات شعره الكثير مما يحتاج إلى فهم وتفسير وهذا ما يربك الصورة الشعرية ويغلفها.
حتى إذا عصر السواد وما ارتمى
في مقلتيه من الأسى مشكولا
وغدا ينقش في التراب وقد ذرت
منه الأماني تائهًا مخذولا
علم الحقيقة مرة تجتاحه
أتراه يصعد خاوياً وذليلا؟!
قد كان يطمع أن يعيش بقية
من ناظريه وأن يدب عليلا
لكنه قد ظل عكس خياله
فثى على قاع الرصيف غليلا
مسكين ذلك الأعمى البائس.. سأبكيه لحاله متمرداً على رغبة شاعرنا وهو يتحدث عنه بحرارة ومرارة ألا يبكى عليه:
لا تبكه فالعطف أشفق دمعة
تذعي البعيد وتفهم المذهولا
أشعر لذهولي أنني أمام لغز يحتاج إلى تفسير.. وإلى وضوح رؤية أشعر بعجزي فيها وأن أتابع مجريات الهجير دون أن أفهم.
«ليلة منفوحة» وما أدراك ما هي إنها أيضا هجير قد لا يرضى عنه شاعرنا.. وقد يرضى!
ليل بمنفوحة الحمقاء ما صنعا
بي. منهكاً يعصر الأقتار والوجعا
يجتر بردته السوداء في سرف
من وحشة الأرض أمادا لهن وعا
كحلته قطعا تعشو على حلمي
طورا وتلتف فيما عبته قطعا
أحيي به سرمديات القرون على
نشو من الغيب لاصحو ولا صرعا
كل هذا جرى ليلة منفوحة.. والمزيد المزيد منه.
ألمّ بي من لغوب الماضيات كما
ألمّ بالكون طرا حيثما نرعا
أتلو به من وجومي ألف حادثة
في ذمة الرمل والريح الدبور معا
تلابست في خطوط فرحها شرق
ومرها غرق يقتات ما زرعا
أكاد ألمسها تطوي جبابرة
توسدوا من رمال المجد مرتفعا
وفي النهاية شاعرنا في صراع محموم ومحتدم مع كل الأشياء.. الغيم أكداس تحيط به. الريح تعوي: الوحشة تسكن داخله:
ومع هذا لا يريد لليلة منفوحة أن تفرح عنه بعض ما يعاني:
يا ليل دع لي وجومي تحت أروقة
عمياء كالفرع مشبوهاً ومنتزعا
أخط ما راعني من ذا السكون على
داجيك لا أبتغي ذكرا. ولا بيَعا
دعني أمر يدي في وجه محتجب
أو قلب مغترب خلفته شيَعا
أدعوك والصبح مشلول على ورقي
أدري بأن ضمير الليل قد قطعا
هذه منفوحة.. وتلك ليلتها كما عاشها فارس هذه الرحلة.. إنه حر في طرح أفكاره بالطريقة التي يفهمها لوحده.
«مع الشك» قصيدة جديدة تقول كلماتها:
لا تجرني أخا سلمى فما برحت
مودتي فيك أحياها كمرآتك
روحان. والألق الوهاج لفّهما
حس مدى الغيب في ذاتي وفي ذاتك
أكبرت فيك طموحاً شد من ألمي
أو عزّ من صبوتي باقي حكاياتك
فإن تناسيني من غير موجدة
أو تلقَ موجدة فارفق بغراتك
فرب راعٍ عوت للذئب نزوته
ولن يطيق ابن أروى صولة الفاتك
لا يا أخادرة الشرقين هل علمت
تواجد الذئب أن السم في شاتك
هذه المرة وجدته إذ وجدتها قصيدة عتب لا عوج فيها ولا أمتى.. لها سلاسة العبارة. ووضوح المفردات. ومجال الصورة رغم نهايتها المسامة.. هذا ما كنت أتوق إليه من صديق أعتز به وبعطائه..
«وعد» المحطة الأخيرة للرحلة.. والوعد خير:
ذات العيون السود والألق
وغريرة الأحلام والعرق
آفاقها كالماس صافية
ونعيمها من ناعم الورق
يزهى بها قدح تراشفه
مر الهوى والعابث الومق
وتجن أن القت غلالتها
جن المحب المرنف الشفق
يا ومضة منداحة الأفق
والغيم في زاهٍ من الشفق
تدني العشايا من نسائمها
نفثاً مدى الأعصاب والحدق
هل تعذرين الحب سيدتي
إن ضاع والآهات في الطرق؟
وانسل منه الفرع وانصهرت
أحلامه في عالم سحق
أم لي إلى غلواء فاتنة
سلت على تسبيحتي أرقي
وعد أغنى الغيد أفضله
روح الأصيل العذب والقلق
وأيضاً قصيدة وجدانية لها مذاق الغزل اللذيذ.. أعادت إلي الكثير مما كنت أنتظره عبر هذه الرحلة التي تعثرت في خطواتها ولكنها انتصرت عند النهاية وقد منحتنا فهماً.. وهضماً لما نحن في أمس الحاجة إليه.. شكراً لشاعرنا «معيض البخيتان» الذي قضيت معه الهجير.. لا الهجر.. أربك فهمي بالكثير من رموز مفرداته إلى درجة العجز.
الرياض ص. ب 231185
الرمز 11321 فاكس 2053338