يعد الحجاج (Argumentation) بابا رئيسا من أبواب النظرية التداولية، وقد جاء الالتفات إليها قسرا بعد ظهور فجوات في الدرس الأسلوبي لم تستطع مفاهيمه وآلياته سدها، وإذا كانت الأسلوبية قد ضمت البلاغة القديمة تحت ردائها فإن التداولية قد التهمتهما.
لن أطيل كثيرا في الوقوف عند هذه الفكرة، ولكني صدَّرتها لأدلف من خلالها إلى بعض الاعترافات التي يقدمها كبار النقاد حينما يحسون أن الزمن قد تجاوز أفكارهم، إنهم لا يضيعون قدراتهم في تسويغ صنيعهم السابق وفي محاربة الجديد، بل يعلنون دون تحفظ أن النقد تخطى كثيرا من منجزاتهم، فهذا حمادي صمود يؤكد في الطبعة الثانية من كتابه (التفكير البلاغي عند العرب) أن الزمن لو عاد به لاختار المعالجة التداولية بدلا من الأسلوبية، فماذا يقول بعض من لم يصلوا حتى إلى الأسلوبية ويرونها خارج قسم الأدب، ويستمرون في اجترار أفكار عفا عليها الزمن، بل يعيقون الطلبة الذي يريدون مواكبة الحركة النقدية، ولكن إذا علمتُ أن من يسكن خارج التاريخ لا يمكن إعادته إليه احترمت قارئي وتركت الحديث عن أمثال هؤلاء، فما لجرح بميت إيلام.
وهذا عبدالله صولة رحمه الله يدرك بحس الناقد الأمين أن عليه التحديث في منهجه وإلا فإن الزمن لن يرحمه؛ ولذلك راح يزاوج بين الأسلوبية التي خبرها ردحا من الزمن والتداولية التي جدَّت، باذلا كثيرا من الوقت في سبيل المواءمة بينهما في كتابه الشهير (الحجاج في القرآن الكريم من خلال أهم خصائصه الأسلوبية) كان رحمه الله صادقا مع نفسه قبل أن يكون صادقا مع تلاميذه ومحبيه، أعلن لهم على الرغم من خبرته في الدرس الأسلوبي أنه وحده ليس كافيا في التعامل مع النص القرآني.
لقد ألغى صولة رحمه الله تاريخه كاملا، وآثر أن يبدأ متعلما بعد أن أضحى أستاذا؛ لأنه أحس أن الدرس الحِجاجي أصدق في التعبير عن أفكاره، ولذلك لم يرَ ضيرا من إعادة تكوينه من جديد في سبيل خدمة كتاب الله عز وجل، وبهذا ضرب رحمه الله (وسأكررها كثيرا كلما ورد اسم هذا الرجل الذي فني في العلم وفني العلم فيه) أروع الأمثال في إبطال مقولة الجاهليين (إنا وجدنا آباءنا على أمة...).
لقد تجاوز صولة رحمه الله عبدالقاهر الجرجاني الذي سجن نفسه، وسجنت أقسام البلاغة أنفسها معه حين قصر الجرجاني منطقة الحركة على زاوية ضيقة في إعجاز الكتاب العزيز فأدى ذلك إلى محدودية التعامل مع تراكيبه وعباراته.
لم يقل صولة - كما قال غيره - هذا عبدالقاهر، فكيف ألغي تصوُّره؟ وكيف أعرض نظرية تخالف فكرته ؟ ولكنه وبكل تجرد، رفع جملة (دع الفكرة تتكلم) فاتضح من خلال معالجته طول المسافة التي قطعها بعد عبد القاهر.
وعلى الرغم من الجهد الكبير الذي بذله صولة رحمه الله فإن هناك أشياء فاتته عند النظر إلى آي القرآن وكلمه، وهذا يؤكد أن النقص طارئ على كل البشر في القديم والحديث، فإذا كان صولة رحمه الله قد استدرك على عبدالقاهر وطوَّر كثيرا من رؤاه فإن صولة رحمه الله قد غابت عنه أمور تتعلق بالإعجاز القرآني في مجال الحجاج، وربما أن العمر لم يمهله للتفكير فيها.
لقد صوَّب صولة رحمه الله نظره باتجاه العلاقة الأسلوبية مع الحجاج، غافلا عن جانب الحجاج بوصفه فكرة قابلة للأخذ والرد، وهو ما تحاول هذه المقالة استدراكه، وتعد بإذن الله بأن يصنف صاحبُها في ذلك كتابا يشيد بناؤه على هذا الأساس.
إن مستوى الحجة التي يعرضها المرء عامل مهم في كسب الرهان بعيدا عن الأسلوب، فالفكرة هي الانتصار الحقيقي، وما الأسلوب إلا معين ومكمل.
ومن هنا ووفاء لروح صولة رحمه الله أقول هذا الكلام بكل ثقة ودون مواربة، وهي ثقة يقدِّرها صولة أكثر من كونه يراها إنقاصا لجهده، فمن يختلف مع رجل بحجم عبدالقاهر يسمح للآخرين بل يشجعهم على أن يختلفوا معه.
بدأ صولة الطريق ولم يكمله، وتحاول هذه المقالة وما يتلوها من مقالات - وربما ارتأيت مناقشة الأمر في كتاب مستقل؛ لأن ذلك أجدى من عرضه على مستوى الصحافة - أن تواصل السير مستثمرة الآليات والمفاهيم الحديثة في فهم الحجاج القرآني على مستوى المعنى لا على مستوى الأسلوب.
مجال بكر لم يتحدث عنه أحد على الرغم من كونه جديرا بالحديث، بل هو مجال خصب لتوليد الأفكار التي تستثمر الخلفيات والآليات الجديدة غير غافلة عن الخصوصية التي تمليها علينا عقيدتنا وأفكارنا الإسلامية.
يمكن أن أضرب على هذا المجال الخصب مثالا يتصل بقصة قرآنية تتعلق بحكاية نبينا إبراهيم عليه السلام مع النمرود بن كنعان، إذ تذكر كتب التفسير قاطبة أن نبينا إبراهيم أسكت النمرود بن كنعان بعبارة حجاجية مخرسة حينما احتال النمرود فقال: أنا أحيي وأميت،{ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ }، فهل كانت حجة إبراهيم دامغة؟ كتب التفسير قاطبة تقول: نعم، والواقع أن الحجة لم تكن كذلك، بل كانت الحجة سهلة الإبطال، فكان بإمكان النمرود أن يقول: أنا الذي أتيت بالشمس من المشرق فاجعل ربك يأتي بها من المغرب، وهنا لا بد من معجزة، تظهر على يد إبراهيم، يؤيده بها ربنا عز وجل، وحين إذن يتحول الموقف من الحجاج إلى الإعجاز.
إن فهم المفسرين القدامى ومن تابعهم من المحدثين لم يحقق - في اعتقادي - مراد ربنا عز وجل، فالنمرود - في تفسيري للآية - أقل من أن يُعبد فهو لم يستطع أن يرد على حجة عادية، فكيف تعبدونه - يا معشر أتباعه - وهو كليل البديهة يُبهت عند أي حجاج يقال له، كيف اتخذتموه إلها وهو لم يستطع الدفاع عن ربوبيته المدعاة في أول نزال حجاجي؟ كيف تمكن من إقناعكم بأنه يستحق العبادة؟ كيف صدقتموه؟ إنه أقل من ذلك بكثير، فهو لا يمتلك حتى قدرات البشر العادية.
ونسير مع الحجاج القرآني في رؤية أخرى يمكن أن نقرأها في اتهام قوم مريم لها بأنها بغي، إنها لم تجادلهم؛ لأنها أحست أن الكلام معهم غير مجد، والجدال معهم خاسر، فسيهزمونها في المعركة الكلامية، ومن هنا اكتفت ب(فأشارت إليه) إنها تنتظر المعجزة لا غير، ولا تناقش في قضية ترى أنها ستفاقم المشكلة وتسير في غير صالحها، لم تنبس حتى بكلمة، بل انتظرت نصر الله عز وجل بعيدا عن القدرات البلاغية التي ستخذلها إن اتبعتها.
وهنا أقف عند معضلة كبرى جعلت مجتمعنا العربي يعود للوراء كثيرا، هذه المشكلة تتعلق بضرورة الرد لمجرد الرد، ولذلك دائما ما يتحدث بعضنا قائلا: اليهود يقولون كذا، فهل نسكت؟ لا بد أن نرد عليهم، أقول وبكل وضوح: نعم نسكت إذا لم يكن فيما نقول ما يدحض حجتهم، وهذا الأمر ينبغي أن نسير عليه في كل شؤون حياتنا، فليس الانتصار أن ترد، ولكن أن يكون الرد مقنعا لمن حولك، لأنك إن خرجت عن صمتك وتحدثت بغير منطق، جمعت - في نظر من حولك - إلى جانب خطئك غباء مطبقا، فأصبحت محلا لظلمات بعضها فوق بعض.
تبدو فكرتي هذه واضحة في قصة نبي الله موسى، فبعيدا عن التعصب غير المنطقي للدين فإني أعتقد أن موسى عليه السلام قد توقع أن فرعون سيغلبه حجاجيا، ولذلك حينما قال له فرعون: {وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنتَ مِنَ الْكَافِرِينَ} لم يجادل موسى بل اعترف، ولكنه لطَّف العبارة قليلا فقال: { فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ} لقد أدرك أن المعركة الكلامية ستنتهي لصالح فرعون، فموسى قد قتل نفسا، ولأن لديه - في نظر فرعون - مشكلة على الصعيد العملي وأخرى على الصعيد الإفصاحي بسبب علة صحية لحقت به (وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلَا يَنطَلِقُ لِسَانِي) طلب أن يكون معه أخوه هارون ليشد أزره، ولكنه نحى الحِجاج جانبا وطلب من الله عز وجل أن يؤيده بالمعجزة، وألا يعتمد على اللسن بينهما، فاستجاب الله له بأن أعطاه معجزتين خارجتين عن نطاق الحجاج {فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ* {وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاء لِلنَّاظِرِينَ}.
ومع نبي الله شعيب يختفي الجدال واللسن تماما، مما يؤكد أن الجدال غير فاعل مع كل الخليقة، ومن هنا لا يحسن أن تحرص على إقناع كل الناس، فقوم شعيب قد أعلنوا منذ الوهلة الأولى أنهم ليس لديهم استعداد لقبول أي كلام حتى لو كان مقنعا (قالوا يا شعيب لا نفقه كثيرا مما تقول) ولذلك لم يأمر الله نبيه بجهادهم قوليا، فالإقناع قد سقط من تقديراتهم، لا ينظرون إلى قوة حجة أو إلى ضعف بيان (لا نفقه) كما يقولون، لا يستقبلون ولا يرسلون، يسيرون على ما يمتعهم ولا يقنعهم (مفهِّين)، ولذلك سقط البيان القولي، وبقيت إقامة الحجة.
أما نبينا محمد صلى الله عليه وسلم (فديت جبينه الزاهر) فالحديث عن حجاجه يطول، ولعل لي وقفة مطولة قريبة ومختلفة عند قوله صلى الله عليه وسلم: «أنتم أعلم بأمور دنياكم»، وقوله «بئس أخو العشيرة».
وأخيرا فهل تراني - بهذا الكلام وهذه الاستنتاجات - قد قلت ما يجرح ديني أو يخدش عقيدتي، أنا لا أعتقد، وإن كان البعض قد يعتقد، أعانني الله:
على أنني راضٍ بأن أحمل الهوى
وأخلص منه لا علي ولا ليا
الرياض