كان ممثلاً من الدرجة العاشرة، ولم يكن في أيّ من أدواره مقنِعاً بتمثيله وأدائه. ذات يوم نصحه أحد زملائه، وهو مثله «مشخّصاتي» من الدرجة العاشرة، بأن يتحوّل من أداء الأدوار المأساوية إلى لعب الأدوار الكوميدية، طالما أن الجمهور «يطُقّ» من الضحك عند أدائه للتراجيديا! وقتذاك غضب «أخونا» غضباً شديداً، ونهر صديقه بعنف، قائلاً: أتريدني أن أتحوّل إلى «كراكوز» يشطّ وينطّ أمام الناس ليضحكهم؟! وأثناء مسيرته الطويلة تعرّض للكثير من المواقف المحرجة، إلا أن أكبرها كان موقفاً أسهم جذرياً في تغيير وتبديل خطّه الفني كله، وقلَبَه رأساً على عقب.
ففي إحدى المسرحيات «المحلية» المغرقة بالحزن والدموع، كان المشهد الأخير فيها عبارة عن «مونولوغ» طويل مملوء بعبارات التفجُّع والنحيب.
وكان المطلوب من «ممثلنا» أن يضع حداً لحياته، وذلك عن طريق إطلاق رصاصة على رأسه من المسدس الذي يحمله، لأنه تلقّى نبأ موت «حبيبته».
في ذلك الحين كانت المؤثرات الصوتية كلّها يدوية فكلَّفَ المخرج أحد العمّال من غير الفنيين أن يجلس قريباً من خشبة المسرح، بحيث لا يراه الجمهور، وبيده مطرقة معدنية ينزل بها بضربة واحدة على قطعة من الحديد ثابتة لتحدثَ صوتاً يشبه صوت الرصاصة المفترض أنها منطلقة من المسدس وذلك في الوقت الذي يضع فيه «ممثلنا» فوهة المسدس على رأسه، وبالتحديد عند انتهاء آخر جملة من «المونولوغ» الطويل والتي فيها يقول: «.
والآن.
أقتل نفسي.
ولا حياة لي بعدكِ.
يا حبيبتي!!».
وبعد تدريبات عديدة ومكثّفة، جَرَتْ الأمور على أحسن ما يرام وجاءت العروض بدون أخطاء في تقليد صوت الرصاصة، وفي توقيت إطلاقها.
ذات ليلة وأثناء أدائه للمشهد الأخير، صوّب «صاحبنا» فوهة المسدس إلى رأسه، ثم قال الجملة الأخيرة، إلاّ أن صوت الرصاصة لم يصدر من ناحية الكواليس! مما أدّى إلى حالة من الارتباك وفشل عملية الانتحار «التمثيلي»، وهذا ما جعله يقترب من العامل المُكَلَّف بإصدار صوت الرصاصة بالمطرقة، ليتفاجأ به وهو يغطّ في نوم عميق! هنا انتفض «صاحبنا» ولَعْلَعَ بصوته صراخاً، علّ ذلك يوقظ ذلك «العامِل» فيتابع معه المشهد، فأعاد سرد «المونولوغ» ومن جديد ثم وضع فوهة المسدس على رأسه، ولكن وللمرة الثانية، لم يصدر أي صوت!! عند ذاك، بدأ الجمهور يتهامَس ويتمَلْمَل في مقاعده بين حيرةٍ وتساؤل واستفهام.
وفجأة تفتَّقتْ عبقرية «بطلنا» في فن الارتجال، وانقاذ الموقف، بعد أن قَطَعَ الامل من صحوة العامل، فتوجَّه الى الجمهور والدموع تنهمر من عينيه حزناً على موت حبيبته وعلى الورطة التي وقع فيها وقال: «أيها السادة هل بينكم من يحمل سكيناً أو خنجراً؟! فتبرّع أحد المشاهدين وناوله سكيناً صغيرة مطوية، وظنّ الجمهور أن هذه «الحركة» هي من ضمن خطة «الاخراج».
فأخذها، ووقف في وسط خشبة المسرح، وبدأ من جديد يعيد «المونولوغ» بإلقاء «فجائعي» وصوت متكسّر يلفُّه النواح والندب، ثم فتح السكين وقال الجملة الأخيرة: «.
أقتل نفسي ولا حياة لي بعدك.
يا حبيبتي»! وهوى بنصلها نحو صدره – تمثيلاً – وفي تلك اللحظة بالذات وبتوقيت عجيب ودقيق سُمع صوت انطلاق الرصاصة من الكواليس!!! وَوَقَعَ «صاحبنا» على الارض، وهو لا يدري ماذا يفعل من هول المفاجأة.
مرّت لحظات صمت وذهول، انفجر بعدها الجمهور في نوبات ضحك متواصلة، وانطلقت التعليقات تقول: «لقد أطلق على نفسه الرصاص من السكين»! بعد تلك الحادثة اقتنع الممثل الجهبذ بالانتقال من تأدية الأدوار المأساوية إلى لعب دور الأدوار الكوميدية.
ومنذ ذلك الحين، ونحن نشاهده على خشبة المسرح وعلى الشاشة الصغيرة بأدوار هزلية ضاحكة تدعو فعلاً إلى «البكاء»!!!
Kahwaji.ghazi@yahoo.com
بيروت