مع أنّ صفة (يتيم) تطلق على من فقد أباه في صغره، وتطلق صفة (منقطع) على من فَقَد أمه، إلاّ أنّ الشائع بين الناس والأخف وطأة أن نصف باليتم كل من مات عنه أبوه أو أمه أو كلاهما وهو (حدث) دون الرجوع إلى التعريفات التي تصل بذلك إلى (لطيم)! ولا أبالغ حين أقول إنّ كل حالات اليتم والانقطاع واللطم، أحاطت بي وحاصرتني وأنا أتابع الدكتور عبد المحسن فراج القحطاني وهو يحكي ببراءة تتسم بالصدق عن طفولته وصباه في برنامج (أديب وسيرة) على شاشة (القناة الثقافية)، فقد كان عفوياً وشفافاً لدرجة تصل به إلى مراتب (العظماء) الذين أخلصوا لأقدارهم وأعطوا آلامهم ما تستحق من الحزن العظيم والذكرى الحاضرة، ولم يرتكبوا جناية النسيان.
كنتُ وأنا أطالع الشاشة أكتشفُ أجوبة عن أسئلة حيّرتني في شخصية الدكتور عبد المحسن منذ فترة؛ فحين كتبتُ مقالة عن (جائزة محمد حسن عواد) وهنأتُ صديقي الكبير الشاعر عبد الله الزيد على فوزه بها كما هنأتُ النادي الأدبي الثقافي بجدة على نزاهته وحسن اختياره للفائز، اتصل بي رئيس النادي وقتها الدكتور عبد المحسن ليشكرني على المقالة، وهذا شيء طبيعيّ – مع أني لم أذكره بالاسم في المقالة – ولكنّ الغريب أن المكالمة لم تتوقف عند الشكر والعفو، بل طالت حتى شعرتُ بمحبة وتآلف وكأننا على صلة منذ الأزل..
كانت تلك المكالمة هي المرة الأولى التي تحدثنا فيها عبر الهاتف، ثم التقينا للمرة الأولى في بهو فندق ماريوت بالرياض على هامش ملتقى المثقفين، فازدادت حيرتي من احتفاء الرجل بي لدرجة أنه صار يشكر عبد الله الزيد - وكنا معاً - لأنّ فوزه بتلك الجائزة كان سبباً في هذه المعرفة التي حدثت بيني وبينه، من دون مصلحة أو تخطيط! الأسئلة التي حيّرتني بعد الواقعتين القصيرتين كانت عميقة ومتجاوزة، وأستطيع إسقاطها على أبعاد متعددة: ما الذي جعل النجوم والأرواح (الجنود المجندة) تتوافق بيني وبين هذا الشيخ الجليل فجأة؟ فلسنا من جيل واحد، ولا أنا أكاديميّ ولا هو شاعر، ويبدو لي أنه لا يتابع مقالاتي وقصائدي كما أنني لا أتابع دراساته ومحاضراته، فما سرُّ الارتياح الذي بدا على كلّ منا في المرتين (عبر الهاتف وفي بهو الفندق)، وكأنّ بيننا صلة (نسب)؟! أقولُ: بعد مشاهدتي له – على الشاشة - وهو يحكي سيرته الذاتية، وتكراره لعبارات تملأ صدري مذ عرفتُ نفسي: (أحتاج إلى حنان الأم حتى الآن)، (لا أزال ذلك الطفل اليتيم)، (كلما شاهدتُ ابناً مع أمه شعرتُ باليتم فبكيت)، وغيرها الكثير من الجمل والعبارات المحفورة على جدار قلب كل يتيم؛ عرفتُ حينها أيّ صلة (نسب) تربطنا..!
ولعلّي هنا أستعير شطراً من بيت امرئ القيس الشهير (وكل غريبٍ للغريب نسيبُ) فأحوّره ليكون (فكلّ يتيمٍ لليتيم نسيبُ)! وكانت المفاجأة حين اتصلتُ به لأبدي له إعجابي بالحلقة، وأسأله إن كانت (سيرته) مكتوبة أم لا؟ فقد قال لي إنه لم يشاهد الحلقة مطلقاً، فقد سجّلتها له قناة الثقافية منذ أكثر من سنة وقالوا له إنها ستعرض قريباً فظلّ ينتظرها حتى ملّ الانتظار وحسبها لن تعرض أبداً (!) وعرفتُ منه أنه متردد في كتابة سيرته الذاتية، بتلك العفوية التي جاءت على لسانه وملامحه، مع أنه يتمنى أن يفعلها ويكتب! أقول لقناتنا (الثقافية): من فضلك كوني أكثر التزاماً مع (الكبار) حتى لا يبتعد عنك كلُّ كبير فتصبحين في مهبّ الدخلاء، والأشياء الصغيرة الفارغة، والفراغ الذي لا يمكن أن يُملأ من دون دقة وانتظام والتزام..
وأقول للدكتور عبد المحسن القحطاني، في صيغةٍ ملؤها التحدي والاستفزاز: إنّ البحوث والدراسات أعمالٌ أدبية وليست إبداعاً، وبرأيي أنّ كتابة (السيرة الذاتية) من أسمى مراتب الإبداع الأدبيّ، فهي حياة معاشة لتكون مادة مكتوبة - لا مجرّد حلقة من برنامج تلفزيوني! - وهي الكفيلة بأن تصل بصاحبها إلى الخلود الأدبيّ أو أن تسقطه من قائمة عصره.
وسأتمادى فأقول له: إن كنتَ (مبدعاً) - وأنا لا أراكَ إلاّ مبدعاً - فاكتب (سيرتك الذاتية) بكل ما تملك من أدوات اللغة والذاكرة والخيال؛ لتقطع الطريق على كل من يظن الأدب مجرّد دراسة ونظريات، ولا يعرف أن ثمة (حرقة) لا بد منها، فلولاها ما التفت أحدٌ إلى داخله وحاول أن (يبدع) من أعماقه أدباً، ولا كان للأدب وجود..
ختاماً أقول: الدكتور عبد المحسن لم يعد رئيساً لنادي جدة الأدبي الثقافي الآن، ولم يعد أستاذاً للغة والأدب في الجامعة بعد تقاعده، ولا عذر له في عدم كتابة تلك الذكريات التي لا تهمّه وحده، بل ستهمّ كل إنسان له (أم) لم يعرف قيمة وجودها جيداً.
أمّا كلّ إنسان فَقَد أمه صغيراً، فسيجد بعضَ نفسهِ بين صفحات تلك السيرة دون أيّ اختلاف! أمّا أنا، فلقد سبقته إلى إرهاصات (مداخل إلى الفصل الأول من السيرة) منذ سنوات، وشعرتُ منذ تقديمها للناس أنني قدمتُ شيئاً من الوفاء الأدبيّ، لأسباب وجودي وتكويني، قبل فوات الأوان..
ffnff69@hotmail.com
الرياض