السلام قابع في قلوب البشر، هو أصل الوجود والحياة، هو النور والأمل والتواصل، هو الجمال والمحبة والعطاء والتسامح والقناعة والرضي.
من بين تلك الكلمات تنبت وتنبع (سيزار يا).
أتت حافية القدم، تركض خلف المحاصيل والحقول، تبحث عن لقمة عيش كريمة لتسد رمق جوعها بعمرها الصغير وملامحها الإفريقية الأصيلة، تمزج الطيب، والحزن، والجوع، والظلم، معاني وملامح تأصلت معها طوال تلك السنين، كثيرا ما كانت (سيزار يا) تتأمل السماء تعد نجوم الليل وترصد لقطات الشهب المسرعة في اللحظات المناسبة، اشتهرت قبيلتها أيضا بذلك، حتى أصبح الناس يمزجون قصص الخيال بالواقع على قدرة قبيلتها بشفاء الناس والاتصال مع العالم الآخر مع المجهول.
في إحدى الليالي نهضت (سيزار يا) فزعه من كابوس مثقل بالغيوم السوداء والحمراء، يتخللها أسنان بشرية متناثرة حولها مشهد غريب وعجيب، صوت الرعد يدوي في المكان، تبرق السماء في كل الاتجاهات حتى أصبح الليل كالنهار مضاء، تقدمت لوالدتها تبكي وقد امتلك الخوف والرعب كامل عقلها وجسدها فلم تستطيع أن تتفوه بكلمة، مكتفيه بالإشارة لسماء، لم تفهم الأم ماذا تريد ابنتها لكنها نهضت واحتضنتها بصدرها الحنون وجسمها الممتلئ، تتلو بعض الصلوات والقراءات لكي تعيد الهدوء والطمأنينة إليها، هدأ المكان وخلا من أي صوت، أطبق الصمت على كل أنحاء القرية، سكون ملفت غامض موحش، يجعل في النفوس هيبة ورهبة، يوقظ النائم من مضجعه، ليهب بعد هذا الهدوء الغريب نسمات من الهواء الباردة مرة والساخنة مرة أخرى، هناك معركة قد بدأت بين قوتين خفيتين عن الأنظار، ليبدأ بعدها صوت الرياح معلنة قدوم الفزع، تتعالى ضربات النوافذ والأبواب وصوت أقدام كثيرة تتقدم بدون أجساد واضحة المعالم، امتزج صوت الرياح بصوت الأقدام تنذر بداية معركة ما.
يحاول كل سكان القرية إقفال الأبواب والنوافذ بأحكام، يتلون الصلوات ويشعلون البخور في كل زوايا الأماكن، محاولة منهم لطرد شر الرياح التي توغلت فيها روح الشر، الأصوات تزداد حدة وجنونًا لتثير معها المحاصيل والحقول أمام عاصفة هوجاء ضلت الطريق.
صوت الأطفال بدأ بازدياد بكاء وعويل تراقب ملامح وعيون الكبار، كل الأعين تتجه للسماء، كأنها تذكرهم بقصص قديمة أعيدت هذه الليلة بقوة غامضة، تتكاتف أيادي الرجال وتنطق الأفواه الصلوات، يتوقف العقل والفكر والمنطق، إلا دقات قلوبهم التي اجتمعت لتشكل سيمفونية الخوف، العتمة والظلام يخيم على قريتهم وكأنها أيقظت روح قديمة.
تقف (سيزار يا) خائفة لتطابق الواقع مع الخيال مع الأحلام، تعلم جيدا الآن مغزى حلمها، وتسأل ماذا بعد.
تسمع (سيزار يا) صوت أقدام الخيول زافرة مستنفرة وقرع الطبول وترانيم قديمة تأتي من المجهول، ليس غريبًا عليها فهي تألفه منذ ولادتها.
سيزار يا: أمي هل تسمعين قرع الطبول والغناء؟
الأم: لا، أسمع صوت الرياح غاضبة.
سيزار يا: صوتهم ينبع من داخلي.
الأم: اتلي الصلوات وتجاهلي قرع الطبول.
سيزار يا: لا يزعجني بل ينسجم مع قلبي.
لحظات وتختفي (سيزار يا) عن الوجود، تغيب عن الوعي لتذهب مع الريح تسابقها فرحًا وشوقًا، تشاهد أعدادًا كبيرة من أناس مختلفين عنها يركبون خيول سوداء وحمراء أسنانهم الأمامية بارزة، ملامحهم قاسية ونظراتهم ثاقبة، لكنها لا تفزع منهم، يتقدم أحد هؤلاء ويطيل النظر (لسيزار يا) لحظات ليقبع بقلبها رسالة فهمت معانيها دون همس أو حديث، خاطرة وصلت سريعا دون عناء (يقرئها السلام والأمان والمساعدة أينما احتاجت إليها)، يختفي فجاءه وتختفي أعداد غفيرة في لمح البصر.
تسمع (سيزار يا) صوت أمها الجاثية أمامها وقد امتلأ صوت المكان بكاء وعويل، تضرب على رأسها وتلطم خديها أسفًا على ابنتها، استعادت (سيزار يا) وعيها بتدرج، تسارع والدتها بوضع بعض القطرات من الماء في فم (سيزار يا).
شعور (سيزار يا) غريب وجميل في نفس الوقت، لتنام بعد ذلك يومًا وليلة، بعدما سكنت الرياح وتوقف صوت الرعد.
نهض جميع سكان القرية من بيوتهم مصدومين من قوة العاصفة التي لم يشاهدوا مثلها منذ أعوام طويلة، يهللون ويحمدون الإله كثيرا أنها لم تأخذ أحدا منهم.
تبدأ (سيزار يا) في سرد من جديد لوالدتها قصة الحلم ومن ثم سمع الطبول والغناء ومشاهدتها للناس يختلفون عنهم قليلا لكنهم مسالمون رغم قسوة ملامحهم، هنا تبدأ دقات قلب والدتها بالارتفاع، وترجوها ألا تخبر أحدًا، وقصت عليها تاريخ قبيلتهم منذ آلاف السنين، أنهم يمتلكون شفافية وروحانية عالية في التنبؤ ومعالجة الناس.
اشتد فرح (سيزار يا) فهي تشعر أنها مختلفة عن أقرانها، تحب قراءة النجوم ورسم الحقول والطيور وقراءة الأفكار ومحاولة معرفة المجهول.
تمر الأيام وفي إحدى الليالي الباردة والممطرة تسمع (سيزار يا) موسيقى تحاكي الماضي والحاضر لكنها ذات طابع حزين تحاكي الروح، تحاكي الصمت، تحاكي الكون، شيء متعلق بسماء، بالمطر، بسلام، بالأمان،، تتأمل اللحن جيدا لتحفظه في قلبها، ليكبر معها وقد أسمته (لحن الأسطورة).
أصبحت تردده صباحًا ومساءً في الأفراح والمناسبات يجتمع خلفها الصبية مرددين (الأسطورة) لتنبعث بعد ذلك نسمات باردة منعشة جميلة في نفوسهم ليعم السلام في قلوبهم، وكأنها (تعويذة) قديمة نهضت من جديد، تلامس كل العاجزين والبائسين والجائعين.
تقدمت (سيزار يا) وضعت يديها الدافئتين بحرارة الحب والعطاء على أحد الجالسين البائسين، نظرت إلى عينيه الحزينتين وشعره المبيض وقسمات وتجاعيد وجهه، لتضع يديها على جبينه المتعب، الصمت يطول لتعانق روحها الروح المتعبة، تعطيه جرعات من الأمل والحب والسكينة، يشعر بعدها بحرارة في جسده، تيار يسري من جبينه إلى كامل الجسد، ليعم في قلبه السلام ولدفئ.
هكذا يتحدث أبناء قريتها عنها، ينقلون (لحن أسطورتهم) من جيل إلى جيل يشرحون معنى السلام والحب والهدف من الوجود الذي لا يأتي ألا بزرعها وغرسها في القلوب، كيف تنمي الروح بصدق والتأمل والصمت الطويل، لتأصل أن الحكمة تأتي من هنا، ما زالت أسطورتهم تهيم بالوديان والحقول تجمع طاقات السماء والأرض ومن ثم توزعها للأرواح الضائعة التي أضلت الطريق.
الرياض