- الرياض
لا تكاد العين في قنوات الأخبار، ولا الأذن تخطئ في هذه الأيام ما يروى عن مئات الآلاف من النازحين والمهجَرين وطالبي اللجوء في الجوار السوري، أو في بلدان أوربية عديدة، وخاصة في أشكال المآسي التي يتعرض لها أولئك على قوارب انتحارية في البحار. ومثل هذه الكوارث كانت قد حلّت ببلدان أفريقية متعددة، وبدأت تلك الأمواج البشرية تتدفق إلى بلدان الرفاه في القارة الأوربية مروراً ببلدان شمال أفريقيا، مما جعل القذافي آنذاك يساوم الغربيين على أمنهم الحدودي بترك بوابتهم الجنوبية دون قيود في وجه ذلك الطوفان البشري، وهي مساومة من أجل حصوله على بعض التنازلات منهم، عندما اشتدت عليه الضغوط إبان الثورة الليبية ضد حكمه.
فقد أقرت الوكالة الدولية لشؤون اللاجئين في الأمم المتحدة، بأن الأزمة الحالية في منطقة شرق المتوسط هي أسوأ أزمة لجوء تشهدها الوكالة منذ سبعة عقود. وقد بلغت أعداد اللاجئين فقط في ستة الأشهر الأولى من عام 2014م قرابة 704000 لاجئ، في تقريرها نصف السنوي، وهي أكبر مجموعة تتابعها المفوضية العليا لشؤون اللاجئين في تاريخها خلال مثل هذه الفترة. ويبلغ عددهم الإجمالي حالياً أكثر من ثلاثة ملايين في بلدان المنطقة وعلى حدود متاخمة، وتتوقع التخمينات أن يصل العدد بحلول ديسمبر المقبل إلى 4،27 مليون شخص، في ظروف قاسية وفي ظل عدم وجود مصادر بديلة أو رديفة لمعونات الأمم المتحدة في المسكن والمأكل والملبس والخدمات الضرورية.
ولو استعرضنا الأحداث التاريخية المقاربة لهذا المشهد في المنطقة، فلن نجد له مثيلاً أو مشابهاً في أثره، وتغيّر الحياة بعده، إلا ربما ما حدث لليهود في القرن السادس قبل الميلاد، عندما قام البابليون بإجلائهم من مناطقهم (فيما عُرف في التاريخ بالسبي البابلي). وقد قتلوا منهم أعداداً كبيرة، وهجّروا البقية إلى مناطق الحكم البابلي في الرافدين. ومنذ ذلك التاريخ تغير وجه المنطقة بالكامل؛ فالهجرات الكبرى أو النزوح الجماعي لشعوب أو أعداد كبيرة منها، لا بد أن يؤثر في البنية الثقافية والعوامل الاقتصادية والسياسية، وكذلك الهياكل الاجتماعية في المناطق الجديدة.
فهل يظن المتابعون لتلك الأحداث، والمعلقون على نتائجها تحليلاً أو انفعالاً لفظياً في كثير من المناسبات، أن نزوح الملايين من ديارهم، والهجرة القسرية لمئات الآلاف إلى مواطن ثقافات غريبة عنهم، لن تؤثر في ديموغرافية المنطقة، وفي جغرافيا شرق المتوسط؟ ربما تمضي عقود أو قرون قبل أن تستقر الأمور، لكن الحدود الجغرافية والسمات الثقافية لمكونات هذه المنطقة لن تبقى كما هي قبل الأحداث.
لن تهمني التحليلات السياسية الفارغة، التي تتنبأ دون بيّنة بالمدّ الفارسي، كما كان الحال قبل ستة عشر قرناً، أو بالسيطرة الأمريكية على مناطق النفط في الجرف الممتد من بحر قزوين إلى الخليج. ما هو ماثل للعيان، ولا يمكن إغماض العينين عن وضوحه الشديد، هو أن البقعة الجغرافية العربية واقعة بين فكّي كماشة كبرى، طرفها الغربي في ليبيا، والآخر الشرقي فيما كان يُسمى «الهلال الخصيب». فأي السيناريوهات الكبرى أقرب إلى التحقق في مآل المنطقة، وأي القوى ستكون لها الغلبة في نهاية الأمر، وما الأيديولوجيا التي ستسود بعد استقرار الأمور؟
كلها أسئلة لا يستطيع الإجابة عنها إلا فئة الكتّاب والمعلقين الذين ينتمون في جوهرهم إلى فئة الكهّان. الشيء الذي يمكن الجزم به، أنه لن يكون هناك وجود بعد اليوم لعدد من الكيانات، التي يتشدّق بعض المنظّرين بمطالبات فجة بوحدتها، وإعادة الأمور إلى نصابها؛ لكن قوة رياح التغيير هذه جارفة، بالرغم من أنها لم توقظ بعدُ بعض الحالمين.