ماجد بن عبدالرحمن الخميس - القاضي بمحكمة التنفيذ بمكة المكرمة
ما أصعب ما يتحدث المرء بنفس متعبة.. وعين ملئ بدمع محتبس، وما أصعب الكتابة من محبرة قلب موجوع..
حينما رحلت إلى أم القرى شرفها الله، سألت عن الدكتور عبدالرحمن العثيمين، فقد أعجبت بتحقيقه لكتاب الطبقات، والتي لا يجد القارئ العادي عناءً في معرفة تميز صاحب ذلك التحقيق وتلك التعليقات.. لكن فوجئت بأنه تقاعد من الجامعة.
ورجع إلى بلده عنيزة.. ثم توالت المشاغل.. لكن ما زال هاجس طلب اللقيا به يزيد.. وفي إحدى زياراتي للقصيم لحضور إحدى المناسبات عقدت العزم على زيارته.. فبحثت عن رقمه وما أسرع ما حصلت عليه في قصة طريفة لمست فيها تيسير الله عز وجل.
هاتفت الرجل قبل ذهابي وأنا لا أعرف عنه سوى ما قرأته من تحقيقاته! ولك أن تتخيل ما الصورة المرسومة في ذهن رجل مثلي عن رجل تخصصه اللغة العربية.. مهتم بالمخطوطات وتحقيقها.. وخصوصاً طبقات الحنابلة.
هاتفته فردَّ عليَّ سريعاً وأنا بين مصدق ومكذب، فالرجل بسيط جدًا ولا يتكلم الفصحى! حتى ظننت أني قد أخطأت في الرقم.
ثم هو يرحب كثيراً وهو لا يعرف حتى اسمي وما الذي أريده منه في تلك اللحظة! نعم.. لقد زال كثير من التوجس والغموض عن تلك الشخصية بهذه المكالمة..
ولما وصلت قريباً من بيته اتصلت عليه ثانية، فأنا لا أعرف مكانه تحديداً فأخذ يوصفه لي مرة تلو الأخرى.. خُيّل إليّ أنه لا يوجد لديه ذلك المساء إلا أنا كما أوحت لي نبرات صوته.. أو كما تخيلت أنا!! دلفت إلى مجلسه التراثي فرأيته جالساً قد مدّ رجليه على الأرض وأمامه ثلاثة قد دنوا منه!! خجلت كثيراً فلم أتوقع أن يكون متعباً أو أن يكون مشغولاً مع غيري.
جلست أمامه وعرفته بنفسي وأخبرته أني قد بحثت عنه بمكة.. ثم أثنيت عليه بما هو أهله.. لكنه غضب من ذلك الثناء - وعلمت فيما بعد أن هذا التواضع وهذه البساطة غير متكلفة إطلاقًا كما يفعل بعضهم! طلبًا لمزيد من الثناء!
سرعان ما ازدحم المجلس وضم أخلاطاً شتى..
كلهم يجمعهم -فيما أحسب- محبة أبي سليمان!
كان المجلس ماتعاً لذيذاً.. وكان ربانه بلا منازع أبو سليمان! يسرد القصة بتفاصيلها وبأسماء أبطالها ثم يذكر القصائد برمتها كأنه يقرأها من كتاب أمامه!!
رفع المؤذن نداء العشاء وسرعان ما انفض السامر.. لكن بدأ سمر من نوع آخر.. بقيت أنا وثلاثة معي لا أعرف أحداً منهم.. أشار إليَّ أن أدن.. فدنوت فقال: المعذرة فلم أستطع تناول الحديث معك لوجود الناس.. ثم أردف: هات ما عندك؟ فاستشرته في بعض المخطوطات ومواضيع بحثية.. فأجابني بسعة صدر، ولفت نظري وقتها أنه بتواضع وبساطة يقول لا أعلم! ثم قال لي: أنا قد لا أعرف اسم المخطوط الذي تذكر -يقصد لتخصصه الدقيق- لكني أعرف الرجال والمؤلفين جيداً!.
ثم قال هناك شيخ بالرياض اسمه فلان لديه علم بالمخطوطات التي تبحث عنها وممكن يفيدك.. عندك رقمه؟ قلت لا.. فأخرج هاتفه فوراً وبدأ بالاتصال عليه.. فلم يرد.. ثم أعطاني رقمه قائلاً: اتصل به.. واذا أردت شيئاً فاتصل علي فأنا ما بيني وبينك إلا مكالمة في أي وقت! فشكرت له فعله وكرمه الذي لا يفعله ربما أستاذك الجامعي المكلف بأمرك!
ثم لما أردت وداعه أخذ يلح علي بالبقاء فاعتذرت له لارتباطي بدعوة زفاف قريب لي.. وقلت له: لعلك يا شيخ لا تعرف خالي فهو زميلكم أبو أوس إبراهيم الشمسان فغضب علي مرة أخرى ورفع صوته قائلاً بلهجته الرقيقة: أنا ما بيني وبينك أحد.. أنا ما بيني وبينك أحد!.
انصرفت من عنده وأنا مذهول ومعجب ومحب.. وهكذا انتهى اللقاء الأول بأبي سليمان وقد حجز له في القلب مكاناً كبيراً جليلاً لن يجرؤ أحد على الاقتراب منه!..
علمت فيما بعد من أحد الثلاثة -وهو الشيخ محمد الحميد من أحفاد مؤلف السحب الوابلة- أن أبا سليمان قد أجريت معه لقاءات في إحدى القنوات فذهبت مسرعاً ورأيتها واحدة تلو الأخرى.. وأنا لا أدري الآن: هل كان علي أن أراها قبل مقابلتي له؟ أم أحمد الله عز وجل أن رأيته قبلها؟! يبدو لي أن الخيار الثاني كان أفضل، فعنصر المفاجأة في رؤية بعض الأشخاص يصنع في القلب أثراً فريداً.. وهو ما كان مع أبي سليمان، فقد ظلت حلاوة اللقاء الأول حتى كتابة هذه الأسطر.!.
في إحدى زياراتي له أجلسني بجانبه مباشرة وسألني: بشّر ماذا صنعت ببحثك؟ فأخبرته أني سافرت إلى مكتبات داخل المملكة وخارجها، وزرت في البلد الفلاني مكتبة كذا ومكتبة كذا.. وأحضرت النسخة الفلانية.. فتهلل وجهه فرحاً وسروراً وكأنه رحمه الله كان يشاركني همَّ الرحلة وعناء البحث!.
كان معي في ذلك المجلس شقيقي الشيخ سليمان.. ولما ذهب معظمهم -وكالعادة يطلب أن أبقى معه بعد انصرافهم- أخذنا الحديث عن بعض أوجه البلاغة فأخذ يورد الشواهد من القرآن، ثم أمر أحدنا يقرأ سورة الحج ويستخرج منها الشواهد.. فقرأها إلا قليلاً.. ثم لما أردنا الانصراف قال ما أسمح لكم إلا تأتون في الغد! فقلت: أبشر يا أباسليمان.. ثم التفت إلى أخي قائلاً بلهجته المحببة: أنت دامك قريب بالرياض وراك ما تجي؟ فاعتذر له أخي بأن أغلب أصدقائه هناك وأن رَبْعَه (أصدقائه) هنا مشغولون، فقال رحمه الله: لا من هاليوم هنا لك صديق ولك رَبْع!.
ثم جئنا من الغد.. دخلنا وفي المجلس بضعة رجال.. ولما جلسنا التفت إليّ أنا وأخي قائلاً: أصغركما يصب الشاهي! فقمت أنا فقال وهو يضحك رافعًا صوته كعادته: أيها القاضي قد عزلناك فقم!.
ثم لما خرج القوم جلست معه أنا وأخي لا غير..
وكعادته يعتذر قال: ذات مرة امتلأ المجلس وكان جميع من فيه من خارج عنيزة ولا أعرفهم.. قالتفتُّ فلم أعرف إلا محافظ عنيزة -وهو ممن يحضر مجلس أبي سليمان- فأمرته بصبِّ الشاهي، وظننت أنه لن يأتي بعد ذلك، لكنك رأيته بالأمس فهو الذي كان بجانبك.. قلت: وهذه أيضاً تحسب لذلك المحافظ المتواضع..
حدث مرة أن استأذن رحمه الله قليلاً ثم عاد وهو ممسك بأحد كتبه التي قام بتحقيقها، وهو كتاب تفسير غريب الموطأ لابن حبيب رحمه الله وقد ذكر فيها قصة أبي الحسن القابسي رحمه الله في توليته للفتيا وهي قصة معبرة أسوقها بقلم أبي سليمان، قال -نوَّر الله قبره- في معرض كلامه عن شروح الموطأ:
[شرح علي بن محمد بن خلف القابسي (ت:430هـ) صاحب الملخَّص مؤلفه إمامٌ مشهور علامة قيرواني محدث فقيه إمام في الفتوى... وكان القابسي فاقد البصر نافذ البصيرة عالماً زاهدًا وَرِعًا، دُعي للإفتاء فأبى وأغلق بابه على الناس، زهداً وورعاً وخوفًا على نفسه من الفتوى، واحتقارًا لنفسه عن مرتبتها، فقال أبو القاسم بن شبلون: اكسروا عليه بابه؛ لأنه قد وجب عليه فرض الفتيا، وهو أعلم من بقي بالقيروان، فلما رأى ذلك خرج عليهم وأنشد:
لعمْرُ أبيك ما نُسِبَ المُعَلى... إلى كَرَم وفي الدُّنيا كريم
ولكنَّ البلادَ إذا اقْشعَرَّتْ... وَصوَّحَ نَبتُها رُعِيَ الهَشِيم
ثمَّ بَكَى وأبكى الناس، وَقَالَ: «أَنا الهشيم» ثلاثًا وَالله لَو فِي الأَرْض خضراء مَا دُعيت أَنا!]
وقد تكرر هذا الموقف مرتان، يقوم ويحضر الكتاب ثم يأمرني بالقراءة، وكأنه يريد وعظ القاريء -خصوصاً- والحضور بطريقة غير مباشرة!
لم يكن يميز أبا سليمان مالٌ أو جاهٌ أو منصبٌ.. بل كان كما يقال أخذ التميز بيمينه! علامةٌ موسوعيٌ، جادٌ، مثابر... وإذا قال في تعليقاته: (أقول وعلى الله أعتمد) ثم أعقبها بتأمله وبحثه فيما يقول به... وكم هي مبهجة علامة الاستفهام تلك التي يضعها دليلاً على أنه لم يتوصل إلى نتيجة تجعله يضعها أمام قارئه!
لم يتكسب أو يترفع يومًا أبو سليمان بحرف يسبق اسمه، بل لم يكن يفخر بما يفخربه الناس.. فلم أره يومًا ما فخر بقبيلته أو بلدته أو منصبه..
قال لي ذات مساء.. أنا لست متعصبًا أبداً.. ثم قال وهو يضحك: أترى هذا الشاب -وأشار للشيخ علي الصويان وهو ممن يلازمه- هذا أعزُّ عليَّ من أبناء عمي!.
لم يكن يرحمه الله يبالغ في آرائه ويتعصب لها أو يبالغ في توقيره للمشايخ توقيرًا يخرج به إلى المبالغة المقيتة.. مع أنه قرأ كثيراً من التواريخ وكتب السير وهي بطبيعة الحال لا تخلو من المبالغات.. ذكر مرة قصة عن أحد طلاب العلم ألف كتابًا في سيرة الشيخ ابن باز رحمه الله أحضره إليه وأهداه إياه، يقول أبو سليمان -وتأمل كيف يصنع العارف بالكتب والمؤلفين- يقول: كنت على عجلة من أمري فأخذت الكتاب الضخم لأخذ صورة سريعة مبدئية، فتصفحت الفهرس فوجدت مبحثًا عن زهد الشيخ وعبادته، فشدني عنوانه لأن هذا من أهم ما يتصف به الشيخ فلا أعرف أحدًا يداني الشيخ في ذلك، فقاطعه أحد الحضور قائلاً: تقصد الشيخ محمد ابن عثيمين؟ قال: لا بل أقصد ابن باز ولا الشيخ محمد يقرب منه! ثم قال: فوجدت المؤلف ذكر قصة منكرة عن نافلة من نوافل العبادات -وسماها- وأنه كان محافظًا عليها منذ كذا وكذا! فرميت الكتاب جانبًا وعلمت أنه يكذب؛ فإن الشيخ محمدًا أخبرني أن ابن باز أخبره أن هذه النافلة من أشق النوافل عليه وأنه لا يفعل منها إلا كذا وكذا!..
قال لي مرة: بعض العلماء علمه أكبر من عقله، وبعضهم عقله أكبر من علمه، وقليل منهم من يجتمع فيه الأمران معًا!
وقال لنا مرة: ما يدخل هذا الرأس -وأشار إلى رأسه- لا يخرج منه أبدًا! يقصد حفظه.
لم يكن يهم أبا سليمان أن يحقق أكبر جمع من المخطوطات أو يقوم بكنزها وحجبها عن المنتفعين كما يفعل كثيرون، بل كان يبذل علمه وجهده، فكم من مخطوطة جلبها من أقصى الدنيا، وأعطاها مجانًا بطيب نفسٍ لمن يحققها ويقوم بأمرها..
لم يقحم نفسه في أشياء لا يتقنها، أو علومٍ لا يجيدها، أو فنونٍ لا تستهويه..
كان رحمه الله مستقلاً في نظرته وآرائه.. استقلال العالم الفاهم المتواضع، الرجّاع الذي لا يجد غضاضة في الرجوع عن رأيه، وفي تعليقاته المفيدة في تحقيقاته يظهر ذلك جليًا، انظر مثلاً في استقلال رأيه في نسب آل تيميّة.. وفي توبة الطوفي رحمة الله على الجميع..
قال لي مرة: انتبه.. كن مستقلاً في نظرتك ولو أدى ذلك إلى حرمانك من الدرجة العلميّة، ما فائدة العلم الذي ترضخ فيه لغيرك؟ ما فائدة طالبٍ يقول كلامًا لا يعتقده ولا يقتنع فيه؟ أنت أهم من الدرجة كلها!! ومن عرف قصته في تحقيق السحب الوابلة أدرك صدق قوله!.
في المجلس الأخير قبل دخوله المستشفى بشهر ونصف تقريبًا قال لي شيئاً ما زلت كلما تذكرته.. هاجت عبرتي.. وسالت دمعتي.. قال لي وكنت أنا وأخي لا غير: أنت لماذا لا تأتينا كثيرًا؟ كانت نبرته غريبة وقتها، وأول مرة -وكانت آخر مرة - يحدثني بتلك النبرة..
«نَصيبُكَ في حَياتِكَ مِن حَبيبٍ..... نَصيبُكَ في مَنامِكَ مِن خَيالِ»
لقد ترك رحيل أبي سليمان في قلبي جرحًا طريًا
لا يندمل حتى ألقاه في جنان الخلد -بإذن ربي-.. لقد كنت أعد اللحظات والأيام لدقائق -تُشترى بالنفيس- أقضيها معه.. لأشفي صبابة قلب هام في حب رجل لا يتكرر إلا نادرًا..
«ورحلت عني
يا حبيبي بعدما
قد صرت مني
وأخذت روحي والرؤى
والعمر مني
ورحلت عني
إنما يبقى بقلبي
وجهك الوضاح منقوشاً بجفني»
بقي على محبي أبي سليمان -وما أكثرهم- أمور أحسبها لا تفوت على مثلهم:
أولها: الدعاء له.. ثانيها: نشر علمه ومن ذلك مسوداته وفهارسه بالوسائل المتاحة، ولعل أولاده يعملون على ذلك فهم ألصق من غيرهم. ثالثها: إنشاء وقف له أو معهد أو كرسي يعنى بمنهجه في التحقيق والمخطوطات..
رحم الله أبا سليمان وأسكنه فاسح الجنان، وجمعنا به في مستقر رحمته، مع النبيبين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقًا!.