- الرياض
لم أستطع مدافعة الألم وأنا أشاهد العامل ومجموعة من الكراتين يلملم فيها محتويات مكتب أستاذنا الدكتور عثمان بن صالح الفريح، يغادر أستاذنا القسم بعد سنوات طوال من العمل الدؤوب المتصل، ومن مكابدة ما يجده من الطلاب من عنَتٍ ربما كان من أسباب عزوف بعض زملائنا عن مواصلة العمل؛ إِذْ خاب أملهم بطلابهم وأحسوا أنه لا جدوى منهم، وأما أستاذنا فيغادرنا كما غادر غيره بقرار إداري قد لا يتصف بالحكمة؛ بل هو يعتمد أحكامًا معيارية جامدة لا تفرق بين مقبل على العمل راغب فيه قادر عليه وبين مُزْوَرّ عنه راغب عنه متقاعس في أدائه.
عرفت أستاذنا منذ كنت طالبًا في كلية الآداب في السنة الأولى منها، كنا نملأ قاعتين متقابلتين من مبنى الكلية القديم في حيّ الملزّ، أما أنا فكنت في القاعة التي على يمين السلم الصاعد، وكان يومٌ دخل فيه علينا شاب شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، متهلل الأسارير، تزين وجهه ابتسامة هادئة. دفع إلى أحدنا بالكتاب الذي كان معه ليقرأ ونحن نسمع. كان كتاب (الأيام) لطه حسين، ولم يكتف أستاذنا بكتاب طه بل قرر علينا لنقرأ معه بعض ما جاء في كتاب الإمتاع والمؤانسة، وأعجب الطلاب إعجابًا شديدًا بالأستاذ وبما قرر، ولم يعكر صفو ذلك سوى أن بعض الطلاب سحرهم أسلوب طه حسين فاستمتعوا بقراءته ولكنهم غفلوا عن مضمونه، فلما جاء الاختبار يسأل عن بعض عادات الريف المصري التي ذكرها في كتابه لم يحسنوا القول إلا قليلا منهم.
كان أستاذنا في ذلك الوقت أنهى مرحلة الماجستير في جامعة غربية وعاد ليتعين مدرسًا للغة في القسم بعض الوقت، إِذْ عين مدرسًا مساعدًا في 6 - 10 - 1389هـ، وفي السنة التي تلتها افتقدت أستاذنا فعلمت أنه كلف تعليم مقررات اللغة العربية في كلية البترول والمعادن في الظهران (جامعة الملك فهد الآن)، وكان بعض أساتذتنا يسافرون يومًا أو يومين للتدريس هنالك، ولم أر أستاذنا خلال دراستي في قسم اللغة العربية، ولعله بعد أن أمضى وقتًا في العمل ابتعث مرة أخرى لاستكمال درجة الدكتوراه، وعلمت بعد ذلك أنه ابتعث إلى الخرطوم في السودان، وبعد عودتي من البعثة عام 1405هـ تشرفت بمزاملته وازدادت معرفتي به، عرفت فيه دماثة الخلق وهدوء الطبع، وأما علاقاته بزملائه وطلابه فهي رائعة، لا تسمع عنه إلا الثناء ولا تسمع منه إلا ما يسرك سماعه، حديثه مؤنس لا يملّ، متى حضر وفتح باب مكتبه توافد الزملاء ليأنسوا بحديثه وما يتخلل ذلك من طرف عجيبة، وليس يمنعه هدوؤه ولا تثنيه سكينته أن ينتصر للحق، وأن يرفع صوته بالدفاع عنه، لست أنسى في مجلس القسم أنّ رئيس القسم، وكان ميّالاً للمزاح وربما خلط جدًّا بمزح؛ قرأ تقريرًا كنت كتبته عن اجتماع لجنة أنا مقررها، فأثار بطريقة قراءته ضحك بعض الزملاء؛ فكان أن انتفض أستاذي عثمان الفريح فأنكر عليهم هذا الضحك الذي لم يكن في مكانه ولم يكن له من مسوغ البتة.
اضطلع أستاذنا في القسم بتعليم الأدب العربي القديم شعره ونثره فدرس الأدب في العصر العباسي، وأدب الحقبة الممتدة من العباسي حتى النهضة الحديثة، وهي حقبة متنوعة الأجناس وليس يجمعها معلَم واضح يركن إليه كالحقب السابقة التي نالت من جهود الباحثين ما أسعد الأساتذة والطلاب، وهو إلى جانب تدريسه الأدب اهتم بتعليم مهارات اللغة العربية، وشارك بوضع كتاب مهم عن الكتابة الصحيحة هو (التحرير العربي)، وهو كتاب نشرته جامعة الملك سعود وقررته على طلابها، بل قررته جامعات اخرى. واهتم أستاذنا بترجمة بعض الموضوعات المهمة منها ترجمة ما كتبه Chaim Rabin (حاييم رابين)، وعنوانه The Beginning of Classical Arabic (نشأة اللغة العربية الفصحى). ومن أعماله تحقيق ديوان أبي الحسن التهامي، وبحث «أسلوب السجع بين تطوير البلاغيين وتطبيق البلغاء: عرض ونقد»، و»خليفتان ناقدان: عمر بن الخطاب، وعبد الله بن مروان»، و»بين غفران المعرّيّ وتوابع ابن شهيد»، و»عمود الشعر تاريخًا ومفهومًا»، و»المدائح النبوية»، و»لغة القصيدة الجاهلية»، و»تصارع الزهد والرغبة في شعر أبي العتاهية»، و»الحضارة الاجتماعية والثقافية في العصر العباسي»، و»ظاهرة المفاخرة العرقية في عهد الدولة الأموية»، و»أبو العطاء السندي الشاعر»، و»دراسات في الشعر العباسي»، و»دراسة في شعر علية بنت المهدي».
لا يترجّل الفارس بل يترحّل، ولساننا يردد قول المتنبي:
إذا تَرَحَّلْتَ عَنْ قَوْمٍ وَقَدْ قَدَروا... ألّا تُفارِقَهُم فَالرّاحِلون هُمُ