محمد القبيّل - عنيزة
ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلَّم - من حديث عبد الله بن عمرو أنه قال: (( إن الله لا يَقْبِضُ العِلم انتزاعاً ينتزعه من الناس، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يترك عالماً اتخذ الناس رؤساء جهالاً، فسألوا فأفتوا بغير علم فضلّوا وأضلّوا)) متفق عليه.
ويقول ابن القيم - رحمه الله تعالى - عن العلماء إنهم في الأرض بمنزلة النجوم في السماء، يهتدي بهم الحيران في الظلماء، وحاجة الناس إليهم أعظم من حاجتهم إلى الطعام والشراب، وطاعتهم أفرض من طاعة الآباء والأمهات بنص الكتاب.
ومن هنا كان موت العلماء مصيبة لا تعد لها مصيبة، وفاجعة لا تدانيها فاجعة، فبموتهم يضيع علم غزير وتخبو أنوار نصح وهداية. قال الحسن البصري - رحمه الله - : موت العالم ثلمة في الإسلام لا يسدها شيء ما اختلف الليل والنهار.
ففي يوم الأحد الموافق التاسع والعشرين من صفر عام ستة وثلاثين وأربعمائة وألف، فُجِع العلم وأهله بوفاة قطب من أقطابه وعلم من أعلامه ورمز من رموزه، من شهد له بالمعرفة أساطين العلم في المشرق والمغرب شيخ المحققين وخاتمة المدققين شيخنا الدكتور: عبد الرحمن بن سليمان بن محمد العثيمين - رحمه الله تعالى وجعل الجنة نزله ومثواه وجعل ما قدمه للعلم وأهله رفعة لدرجاته وحطا لسيئاته -.
استقر شيخنا في مسقط رأسه عنيزة قبل سبع سنوات تقريباً، فكانت مجالسه حافلة بفنون العلم والمعرفة يرتادها بشكل شبه يومي الكثير من طلبة العلم من مختلف البلدان على اختلاف طبقاتهم وتوجهاتهم ومشاربهم.
وقد كان لكاتب هذه الأسطر تقييد لقطرات من بحر علومه مما سألته عنها مشافهة أو تحدث بها في مجلسه دون واسطة بيني وبينه، فقيَّدنا النزر اليسير وأضعنا الجم الوفير ولا يندم الإِنسان على شيء كندمه على كنز بين يديه لا يقدر ثمنه ولا يعرف ثمنه إلا عند فقده له.
وقد أشار عليَّ أستاذي الشهم الوفي الدكتور إبراهيم التركي (أبو يزن) أن أثبت بعضاً مما قيدته من نوادر شيخنا في مجلته الغراء (الثقافية)، سائلاً المولى الغفران له ولجميع المسلمين فأقول وبه أستعين:
1 - حدثني - رحمه الله - أنه قد قرأ جميع ما طالته يده من كتب التراجم والمشيخات مخطوطاً ومطبوعاً من الجلدة إلى الجلدة.
2 - قرأت عليه في إحدى الليالي من لسان العرب، فقال لي اسألني عن أي شاعر يورده ابن منظور أذكر لك ترجمة مفصلة له من مولده إلى وفاته.
3 - سألته عن مخطوطة تفسير الطبري التي يتملكها آل رشيد أمراء حائل سابقاً، فقال: النادر فيها هو الجزء الأول فقط من التفسير، وربما هي النسخة الأكمل والأجود، وإلا فإنَّ هناك نسخاً كثيرة غيرها لتفسير الطبري.
4 - حدثني - رحمه الله - بأن لديه مخطوطة شعرية تقع في ثلاثة مجلدات ضخام من ممتلكات الأمير عبد الله بن عبد الرحمن الفيصل، لعدد من شعراء نجد. كما أن لديه قرابة الأربعين دفتراً في الشعر النبطي كتبها من أفواههم أمثال الشاعر/ عبد العزيز البراهيم السليم والراوية الجهني وغيرهم.
5 - قال - رحمه الله - عن مخطوطة لباب الأفكار في الشعر النبطي لابن يحيى وهي تقع في مجلدين ضخمين: طلبها الشيخ ابن خميس من صاحبها فعرضها عليه بـ 40 ألفا، ثم اشتراها أحد أمراء آل ثاني وأهداها إلى ابن خميس. كما أهدى ذلك الأمير نسخة من أحد كتب التراجم للشيخ حمد الجاسر.
6 - أخبرني - رحمه الله - بأن كتاب «العبادات الخمس» لمحفوظ بن أحمد الكلوذاني المتوفى 510 هـ، توجد منه نسخة قديمة في مكتبة الشيخ عبد الرحمن بن عبد العزيز الزامل السليم وهي الوحيدة في العالم صوّرها منه فهد العبد الرحمن العبيكان وحققها وطبعها.
7 - حدثنا - رحمه الله - رواية عن الدكتور عبد الوهاب أبو سليمان وهو من تلاميذ الشيخ حسن المشاط وهو أحد علماء مكة ومدرس في الحرم المكي الشريف - بأن الشيخ المذكور ألف منظومة في الفقه شرحها الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمهما الله، وهما متعاصران لا يعرف أحدهما الآخر، فحدث أن ذهب الشيخ عبد الرحمن إلى مكة المكرمة وفي المسجد الحرام رأى الشيخ حسن رجلاً يصلي قريباً من حلقته وعليه سيماء الصلاح والتقى فأوكل إلى أحد تلامذته من يسأله عن اسمه، ولكن الطالب لم يستطع لأن الشيخ واصل في صلوات النوافل، فلما انتهى الشيخ من درسه انتظر حتى انتهى الشيخ عبد الرحمن من صلاته فسلم عليه وسأله عن اسمه، فلما تعارفا تعانقا عناقاً حارّاً واستضاف الشيخ حسن الشيخ عبد الرحمن في بيته وجلسا يتسامران ويتباحثان طوال الليل ولم يفرقهما إلا أذان الفجر.
8 - حدثني - رحمه الله - بأنه اطلع على مخطوطة تسمى (المقاليد) للبيكندي وقد كُتب عليها خطأ بأنها للتهامي استناداً إلى بيتين من الشعر كُتبا على غلاف المخطوط وهما للتهامي، فظن المفهرسون بأن المخطوطة للتهامي فعلق عليها شيخنا وبين خطأ نسبة المخطوطة للتهامي.
9 - مكث - غفر الله له - في إحدى رحلاته إلى تركيا ستة أشهر يتنقل بين خزائنها واطّلع من خلالها على المئات من المخطوطات وعلق على كثير منها وكان يكتب عند تعليقاته: (قاله عبد الرحمن) فسأله سائل بأنه وجد مخطوطة في تركيا ووجد فيها تعليقه فهل يأخذ به فقال شيخ: لا.
10 - عند زيارته لمكتبة البصرة رأى مخطوطة حاشية ابن غملاس على كتاب (السحب الوابلة) لابن حميد وهي تقع في ألف صفحة تقريباً ولم يهتم بها في ذلك الوقت، لأن اهتمامه كان متّجهاً إلى كتب النحو والأدب، كما رأى مخطوطات أخرى لابن غملاس. ثم إنه بعد ذلك بذل ما في وسعه للحصول على الحاشية ولم يستطع.
11 - حدثنا - رحمه الله - بأن أحد علماء الحديث ويقال له الصوري (من صور لبنان) من علماء القرن الخامس الهجري كتب صحيح البخاري في ورقة وصحيح مسلم في ورقة وكان يضع إحداهما في جيب ثوبه والأخرى في جيبه الآخر ويخرجهما عند الحاجة.
12 - وجد - رحمه الله - في مكتبة البصرة مخطوطة كتاب (كشف النقاب في تراجم الأصحاب) لابن ضويان في مجلدين بخط الشيخ محمد الأمين الشنقيطي (مؤسس مدرسة النجاة بالزبير)، وكان المجلد الثاني في تراجم علماء القرن 12 و13 و14.
13 - عثر - رحمه الله - في بلدة ماردين في تركيا على مخطوطة لمعجم شيوخ تقي الدين السبكي الأب في مجلدين ولم يتمكن من تصويرها لحضوره للمكتبة متأخّراً.
14 - ذكر شيخنا - رحمه الله - أنه وجد في مكتبة مكناس بالمغرب مخطوطتين لا نظير لهما في العالم، الأولى (شرح التسهيل لابن هشام) والثانية (شرح الكتاب لسيبوية) لابن خروف.
15 - سألته عن أقدم مخطوطة اطّلع عليها فقال: هي لكتاب (حذف من نسب قريش) لمؤرج السدوسي المتوفى 195هـ بخط يده بمكتبة فاس بالمغرب.
16 - حدثنا - رحمه الله - بأنه اطلع على مخطوطة الوافي بالوفيات للصفدي بخط يده وكان الصفدي يضع على الهامش أمام العالم الأعمى حرف (ع) والعالم الأعور حرف (أ)، ثم إنه أفرد كل واحد في مصنف، فللعميان (نكت الهميان في نكت العميان) وللعور كتاب (الشعور بالعور).
17 - قال - رحمه الله - كان لضياء الدين ابن الأثير ابن له اهتمام بالعلم وهو الذي نسخ كتب أبيه وأعمامه المجد والعز.
18 - سألت شيخنا عطّر الله جدثه عن أول من وضع الفهارس التفصيلية في التأليف فقال: هو العالم التركي محمد بن أحمد الشهير بـ (وحي زاده) (ت: 1018 هـ) حيث شرح (مغني اللبيب) لابن هشام في مجلدين وأهداه للسلطان مراد الثالث فأُعجب به فقال وحيي زاده للسلطان: إنني رجل فقير وقليل ذات اليد ولو كان عندي كتب كثيرة لجعلته في عشرة مجلدات فأمر السلطان مراد الثالث بأن تجلب له الكتب من كل مكان فأعاد شرحه في عشر مجلدات وسماه (مواهب الأديب في شرح مغني اللبيب)، خصص المجلدين الأخيرين للفهارس التفصيلية فهو أول من وضعها فيما نعلم.
19 - قصة عجيبة أوردها لنا عن عالم يدعى ابن الملا من علماء القرن الحادي عشر الذي شرح (مغني اللبيب) في مجلدين، وأراد السفر فجمع كتبه في ثلاثة صناديق فلما انتصف في الطريق عدا عليه قطاع الطريق فقتلوه ظنا منهم أن في الصناديق أموالاً، فلما رأوا أنها كتب رموها وأتى أحدهم وأخذها وباعها في سوق حلب، فاشترى شرح المغني أحد رجال صاحب حصن شيزر وأهداه إلى سيده صاحب الحصن وهو ابن ابن الملا شارح كتاب (مغني اللبيب)، فلما رأى الدم على الكتاب عرف أن والده قد قتل، ويحتفظ شيخنا بصورة من المخطوطة وعليها أثر الدم.
20 - في عام 1397هـ وفي إحدى رحلاته إلى تركيا وقع بين يديه مصادفة مخطوطة نادرة لكتاب (المنتخب من شيوخ بغداد) لأبي حيان الأندلسي بخط مؤلفه، وقد أراد التحايل على حارس المكتبة بتصويرها خارج المكتبة مستغلاً نومه، فلما خرج بها ووصل إلى محل التصوير ندم على فعله وعاد بها ووضعها في مكانها ثم إنه عاد مرة أخرى للبحث عنها فلم يجدها وحاول مراراً وتكراراً وأوصى بها كثيراً من عارفيه في تركيا ولم يجد نفعاً، فلما كان عام 1434هـ زاره في منزله في عنيزة طالب علم مصري يدعى عبد العاطي شرقاوي وهو معلم في الإمارات، فجرى نقاش بينهما حول المخطوطات فقال شيخنا ما ندمت في حياتي ندمي على مخطوطة أبي حيان فقام الرجل وفتح حقيبته التي معه وأحضر صورة منها. وقد رأيتها بنفسي.
21 - سألته عن أجود كتب التراجم وأعظمها نفعا، فقال: الضوء اللامع للسخاوي.
22 - حدثني - قدس الله روحه - بأنه حصل على نسخة من مخطوطة ديوان أبي حيان الأندلسي بخط ابنه حيان وليس في الديوان قصيدته التي مدح فيها شيخ الإسلام ابن تيميه ولا الناقضة مما يترجح لدى شيخنا أن ما يروى في الخلاف بينهما في كتاب سيبويه غير صحيح، إِذْ لا يعرف من حضرها ولا من نقلها.
23 - سألته عن كتاب ( الحوادث الجامعة) المطبوع والمنسوب لابن الفوطي فقال: لا يعرف مؤلفه، ولابن الفوطي كتاب بنفس الاسم ولكنه مفقود.
24 - في قول ابن مالك
(واستعين الله في ألفية
مقاصد النحو بها محويةً)
قال - رحمه الله - : مقاصد النحو يعني بها كتاباً له اسمه (المقاصد النحوية والفوائد المحوية) في حدود 90 ورقة.
وقول ابن مالك:
(وهل فتى فيكم فما خل لنا
ورجل من الكرام عندنا)
قال: الشافعية يقولون إنه النووي والحنابلة يقولون إنه محمد بن أبي الفتح البعلي وهو أول شارح للألفية.
25 - رجح شيخنا أن شيخ الإسلام ابن تيمية نميري نسبة إلى جد من أجداده لا إلى القبيلة، وأنه ليس بعربي.
26 - سألته عن صحة نسبة ثلاثة كتب إلى مؤلفيها:
أ - (ما تلحن فيه العامة) للكسائي فقال: فيه خلاف والأظهر أنه ليس له.
ب - (مقدمة في النحو) لخلف الأحمر فقال: لا تصح نسبته إليه.
ج - (قواعد الشعر) لثعلب فقال: صحيحة بالسند.
27 - قال - رحمه الله - عن المحدث الناسخ شجاع بن فارس الذهلي (ت: 507 هـ): بأنه نسخ تاريخ دمشق لابن عساكر ثلاث مرات، ولما قيل له لم فعلت ذلك؟ قال: تكفيراً لنسخي ديوان حسين بن الحجاج (ت: 391 هـ) عشر مرات، وهو شاعر غزلي وفي شعره هزل وفحش ومجون.
28 - كان - رحمه الله - حريصاً على استغلال مجالسه فيما يفيد وهو في أشد حالات التعب من المرض، فقد زرته مع مجموعة من الأخوة في مرضه الأخير وقبل أن يدخل في الغيبوبة بأيَّام والمرض بلغ به أشده، فكان ينظر إلينا ولا يتحدث وإذا تحدث لا يسمعه إلا الملاصق له، ومع ذلك همس في أذن أحد الإخوة وقال له: من عنده سؤال فليسأل.
غفر الله لشيخنا وجعل قبره روضة من رياض الجنان وجمعنا الرحمن به مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.