- جدة
المتأمل لمسيرة التحديث في السعودية لابد أن يقف أمام مفهوم التحديث وعلاقته بتاريخ منهج الدولة و طبيعية الوعي السعودي ومستوى الاحتياج لنوع التحديث وتزمينه، والأولوية هي القيمة غالبا التي تُشرع لضرورة التحديث؛ سواء الأولوية بالمنفعة أو دفع ضرر أو الاستباق أو لتحصيل حق.
إن مفهوم التحديث المراد تطبيقه هو مفهوم بدوره له دلالته المرتبطة بقاعدتين هما الأسس الرئيسة المؤسِسة لمنهج الدولة و العقل العرفي المؤسِس لطبيعة الشخصية السعودية وعقيدته.
وتلك القاعدتين ليستا تراتبيتين بمعنى الفرض الكفاية للتواجد الغالب؛ لأن التراتبية قيمة هنا لا تخلو من التابعية واحتمال دلالة التابعية هنا قد تدعم فرضية الأحادي، وبما أن القيمة لكليهما متساوية في الأهمية والتأثير فالمشاركة بالأصل لا بالتبعية وهذا الأصل هو الذي يدعم دلالة التوازي بين تلك القاعدتين.
يُخطى من يعتبر السعودية دولة «دينية « لأن ليس في الإسلام ما يسمى بالدولة الدينية، ويخطئ أيضا من يظن أن بالإمكان تحويل السعودية إلى دولة «علمانية» سواء بالمعنى البسيط أو العميق.
فالقول الفاصل هاهنا إن السعودية «دولة مدنية دستورها ديني» –ولامجال هنا للخوض في الفرق بين المدني و العلماني-وهذا هو المنهج الذي قامت عليه الدولة السعودية الثالثة ورسخه المؤسس الأول المغفور له إن شاء الله الملك عبدالعزيز آل سعود، ويسير عليه أبناء المؤسس.
فلا صفة الدولة أضرت بالدستور ولا الدستور أضر بصفة الدولة لأنه لم يقف مانعا أو عائقا أمام تفعيل التحديثات الكبرى التي تتميز بها الدولة المدنية.
والفضل هنا لرفع الضرر يعود إلى طبيعة المنهج الذي أسسه الملك عبدالعزيز آل سعود لفلسفة التحديث و التطبيق الموضوعي و المحايد لاختيار نوع التحديث وفق مراتب الأولوية السابقة وإجراءات تطبيقه؛ إذ أن استفزاز التطبيق غالبا ما يؤيد إلى تصادم مع معطى التحديث.
لقد آمن المؤسِس الأول رحمه الله بأهمية التحديث لأنه مساهم فعّال في تطور نشأة الدول و ارتقائها ، كما أنه مساهم فعّال في خوص التنافس العالمي للريادة و النهضة، واستمرت هذه القيمة للتحديث يتوارثها أبناؤه بالاعتقاد و التطبيق.
من خلال الاهتمام بثلاثة جوانب مُلِزمة بالتحديث؛ بناء الدولة، بناء الإنسان، وعلاقة المملكة بالمجتمع الدولي و منظماته المختلفة و المشاركة في تفعيل البرامج العالمية.
والتوافق المرضي بين طبيعة الدستور و مُلِزمات التحديث؛ كونها «دولة مدنية بدستور ديني».
ولاشك أن «صفة الدولة السعودية و نوع دستورها» كونها «دولة مدنية دستورها ديني» خضعت لكثير من التأويلات باطلها أكثر من حقها وغثها أكثر من سمينها من كافة التيارات الفكرية المختلفة كل يسحب الصفة لمصلحته الفكرية.
فمن يؤيّد صفة الدولة يدعو إلى وجوب رفع مستوى المدنية في تحديثها و من يؤيّد نوع دستور الدولة يدعو إلى رفع مستوى «ديّننة الدولة» وتقليص التحديثات التي توسع مدنية الدولة.
وما بين هذين الرأيين تدور الكثير من الأفكار والتقاطعات والمتوازيات وكل يعتقد صلاحية رأيه وصلاحه.
لكن منهج الدولة هاهنا غير خاضع لِم يدور بين هذين الرأيين لسببين، أولهما أن فلسفة التحديث مؤطرة المفهوم والهدف والغاية في منهج الدولة وهو تأطير بدوره يحمي فلسفة التحديث من الضغط الفكري أو حماسة الرأي العام أو التورط في تحديث غير محسوب له يضر بالمصلحة العامة، والسبب الثاني أن هو الوعي الجمعي للشعب السعودي.
غير صحيح من يدعي أن «الفكر الديني» هو الذي يقود الوعي الجمعي في المجتمع السعودي أو أن «الفكر الليبرالي» هو الذي يقود الوعي الجمعي في المجتمع السعودي، فالصوت الصاخب لايدل على الكثرة كما أن الظلمة ليست دليلا على الفراغ.
إنما من يقود الوعي الجمعي للشعب السعودي هي الدولة؛ لأن الوعي الجمعي يثق بالدولة بحكم الترابط التعاقدي بين الشعب وحاكم الدولة، في حين أنه لايثق في أي رأي مهما كان صاخبا لأنه يحمل مصلحة خاصة، في حين أن الدولة هي ممثلة المصلحة العامة، تلك الثقة التي تُزيل شبهة المنفعة من فرض أي تحديث.
إضافة إلى الخبرة السابقة بين الوعي الجمعي و الدولة، وهنا تأتي القاعدة الثانية لفلسفة التحديث في السعودية؛ مراعاة العقل العرفي المؤسِس لطبيعة الشعب السعودي و عقيدته.
إن الوعي السعودي يؤمن بأن أي تحديث تطرحه الدولة لن يتحدى رواسخ الوعي الجمعي عكس ما يعتقده من أصحاب الرأي حين يطرحون تحديثات معينة.
ولذلك يطمئن الوعي الجمعي بأي تحديث عام ويطبقه، كما أن استراتيجية»التزمين» كخطة تطبيقية من الخطوات التي تُنجح التحديثات العميق في الوعي الجمعي؛ لأنها تترك مساحة للتأمل في التحديث من قِبل الوعي الجمعي و قياس مصلحته و تدبر، وتحترم حرية الوعي في التطبيق وفق خطة التزمين المتاحة.
إضافة إلى حكمة الدولة في اختيار الوقت التي تطر ح فيه التحديثات، إن ما يرفضه الوعي الجمعي اليوم قد يقبله في الغد، التدرجيّة في التحديث وليست الصدمةعندما نسترجع مسيرة التحديث في السعودية منذ عهد المؤسِس رحمه الله سنجد أن التحديثات التي تبنتها المملكة كانت تتفق مع العقل العرفي لطبيعة الشعب السعودي وعقيدته ما عدا ثلاثة تحديثات تجاوزت ذلك الشرط وهم، إدخال التقنية في عهد الملك عبدالعزيز رحمه الله، وتعليم البنات في عهد الملك سعود برعاية الملك فيصل رحمهما الله ودخول المرأة مجلس الشورى و انفتاحها على سوق العمل في عهد الملك عبدالله رحمه الله.
وتلك التحديثات الكبرى لا يمكن أن نقول أنها تجاوزت الوعي الجمعي للشعب السعودي بالمعنى الدقيق؛لأن من وقف لها معارضا هم رجال الدين، ولايمكن أن نؤكِد أو نتأكد أن رجال الدين في السعودية هم من «يقودون الوعي العام للشعب السعودي» ولذلك لايمكن القول الجازم أن «الوعي العام للشعب السعودي قد رفض تلك التحديثات» والتيقن من هذا الأمر يحتاج إلى مراكز لقياس الرأي العام بصورة مهنية نفتقدها في السعودية سواء على مستوى المصدر و الصفة.
ولذلك تظل حجة الرأي العام أشبه بقميص يوسف كذبه أقرب من صدقه.
إن احترام هذه الدولة لطبيعة خصوصية الوعي العام فيما يتعلق بالتحديث حاضر فيما لايضر مصلحة عامة و لايعيق تحديث مُلِزم ولا يدعم مغالطة تُسيء إلى سمعة المجتمع والدولة.
لقد أسس الملك عبدالعزيز رحمه الله حدود العلاقة بين مصلحة العام ورأي الخاص سواء من رجال دين أو فكر، وهذا ما تؤكده القصة الآتية التي ذكرت عن المؤسس رحمه الله كان موقف عبدالعزيز آل سعود رحمه الله موقفا صريحا بوضع سقف معين لرجال الدين لايتجاوزه أحد، ويفرض عليهم عدم التدخل في الأمور السياسية أو في الأمور التقنية أو الإصلاحية، وهذا الأمر واضحا من خلال رده على رجال الدين الذين اعترضوا على إنشاء محطات لاسلكية في الرياض وبعض المدن الكبرى فقالوا لعبدالعزيز»يا طويل العمر غشك من أشار عليك باستعمال التلغراف وإدخاله بلادنا، فقال الملك عبدالعزيز:لقد أخطأتم فلم يغشنا أحد، ثم قال:أخواني المشايخ أنتم الآن فوق رأسي، تماسكوا بعضكم ببعض، لاتدعوني أهز رأسي فيقع بعضكم أو أكثركم! وأنتم تعلمون أن من وقع على الأرض لا يمكن يوضع فوق رأسي مرة ثانية، مسألتان لا أسمع فيهما كلام أحد، بعد أن ظهرت فائدتهما لي ولبلادي، اللاسلكي والسيارات، وما من دليل في كتاب يمنع استعمالهما»-شبه الجزيرة العربية في عهد الملك عبدالعزيز/خير الدين الزركلي/الطبعة الأولى/ص67-
«هذا قول الحق في فلسفة التحديث في السعودية الذي فيه يمترون».
هذه هي حقيقة «الدولة المدنية و دستورها الديني» الحقيقة التي أسسها الموحد رحمه الله، فقد استطاع عبدالعزيز أن يضع سقفا لتدخل رجال الدين أصحاب الأفكار الجامحة ليحمي بلاده من شر التطرف و التشدد والإرهاب، وذلك السقف كان يحدد متى يتدخل رجال الدين ومتى يجب أن يمتنع تدخلهم، متى يكون في مصلحة بلاده، و متى تكون الأفكار الدينية المتطرفة مضرة ببلاده و نهضتها.
ولاشك أن هذه القيمة العلمانية المتوازنة لسياسة عبدالعزيز و لأبنائه من بعده هي التي استطاعت أن تؤسس فلسفة تحديثية للسعودية لا تتعارض مع دستورها ولا تحجب عنها شمس النهضة والحضارة ومواكبة المستجدات العالمية و بناء الشخصية العولمية للسعوديين.
لقد رسم المؤسِس رحمه الله العلاقة بين منهج هذه الدولة و بين رجال الدين في رده الشهير على بعض رجال الدين الذين حملوا له رسالة ضد الشيعة فقال لهم»أنتم أصحاب دين، ولستم أصحاب سياسة»-السابق/ص66-.وليس الديني كالسياسي.
ويُخطئ من يظن أن هذا المنهج قد يختلف من ملك إلى ملك.
فكل ملوك آل سعود على قلب رجل واحد، وهذا الذي حفظ لهذه الدولة المباركة أمنها وسلامتها وسط الاضطرابات القديمة والجديدة.
إن ثبات المنهج ووسطيته والتوازن النهضوي هو الذي أسس فلسفة التحديث في السعودية.
ولنا في القريب الفائت دليل برهان، فوزير التعليم الأستاذ»عزام الدخيل من المحافظين» ووزير الإعلام والثقافة «الدكتور عادل الطريفي من التنويريين».
ومن يتأمل هذا التنوع الفكري لوزارتين سياديتين في بناء الفكر السعودي سيدرك حقيقة فلسفة التحديث في السعودية.
حمى الله هذه البلاد المباركة من كل فتنة و حقد و كيد ، وبارك الله لنا في خادم الحرمين الشريفين رجل الصلاح الملك سلمان بن عبدالعزيز آل سعود وحفظه من كل شر.
اللهم آمين.