الاقتراب من نصوص شعراء استثنائيين هو بِمثابة المغامرة التي قد لا تُحمد عقباها، ويزيد خطر هذه المغامرة كلما زاد الاقتراب؛ لأنَّ هذه القراءة إن زعمت أنها تُحاول أن تُحيط بالنص وتستوفي مواطن جَماله وبلاغته، وتكشف عن لَمحات العبقرية فيه، فهو زعمٌ لا يُمكن تصديقه؛ لأنَّ مثل هذه القراءات لا وجود لَها في رأيي، خاصَّةً مع نصوص شاعر بِحجم أبي الطيب، ولذلك فالناقد الفطن هو الذي يدرك أنَّ مثل هذه النصوص هي من ذلك النوع الذي يُمكن أن يُنظر إليها من أكثر من زاوية، ولديها القدرة على إنتاج الدلالات المتعددة التي تظل فِي حيِّز الإمكان والاحتمال، مستحضراً فِي مُمارسته النقدية مقولة القاضي الجرجانِي: «باب التأويل واسع، والمقاصد مُغيَّبة».

وهذه السطور وأمثالها ليست سوى مُحاولات للكشف عن بعض جَماليات النص ودقائق بلاغته بصورة موجزة وسريعة، والسعي إلى الاقتراب من حرمه قليلا، وقد يعدها بعضهم -وحُقَّ له ذلك- مُجرَّد شرحٍ وتوضيح للنص، ومُحاولة خجلى لصياغته نثراً بدلاً من نسقه الشعري الذي قد يَجد بعضهم في فهمه شيئاً من الصعوبة، فلا يستمتع بِجمالياته، ولا يستوعب بلاغته وأسرار عبقريته، ومن ثَمَّ ينفر من هذه النصوص، ويُحرَم من نعيم العبقرية والدلالات المحلقة التي تَحملها، ولا يدري لِماذا خلَّد التاريخ أمثال هذه النصوص، وردَّدتها الألسن، وعشقتها الأسماع.

وهذا المشهد الذي سأتناوله هنا هو أحد مشاهد نص شهير لأبي الطيب، يَمدح فيه سيف الدولة، ويذكر انتصاره في المعركة، ويُشيد بشجاعته وبطولاته، يقول أبو الطيب:

على قدر أهل العزم تأتي العزائم

وتأتي على قدر الكرام المكارم

وتعظم في عين الصغير صغارها

وتصغر في عين العظيم العظائم

يكلف سيف الدولة الجيش همه

وقد عجزت عنه الجيوش الخضارم

ويطلب عند الناس ما عند نفسه

وذلك ما لا تدعيه الضراغم

إذا كان ما تنويه فعلاً مضارعاً

مضى قبل أن تلقى عليه الجوازم

وقفت وما في الموت شك لواقف

كأنك في جفن الردى وهو نائـم

تمر بك الأبطال كلمى هزيمة

ووجهك وضاح وثغرك باسم

هذا هو أشهر مشاهد شاعر العبقرية أبي الطيب المتنبي وهو يمدح سيف الدولة ويصف انتصاره العظيم في إحدى معاركه الشهيرة ضد الروم، وهو من قصيدة طويلة اقتبستُ منها هذه الأبيات لنحاول معاً أن نحاورها ونستنطق شيئا من أسرار الجمال فيها، فقد كان المتنبي شاعر الدولة، وكان شعره مرآة العصر وأبرز الأصوات الإعلامية حينها.

وأول ما يُبهرك في هذا النص هو ذلك الافتتاح البديع الذي عودنا فيه أبو الطيب على أن يضمنه روائع حكمته وبدائع فلسفته، وهو استهلالٌ عبقري ما زالت الأفواه تردده والنفوس تتمثله في كثير من مواقفها ومشاهداتها إلى يومنا هذا.

إن الأمور تأتي على قدر فاعليها, وتقاس بمقدار همم أصحابها، فعلى قدر ما يكون عندهم من تأكيد النية والجد في الأمور تكون الإرادة الصلبة والعزائم القوية, وعلى قدر ما يتمتعون به من كرم النفس تكون الأفعال الكريمة؛ ولذا فالناس يختلفون في النظر إلى الأمور، فخائر العزيمة ضعيف الهمة يستعظم الشيء الصغير, ويرتضي الوضع الحقير، بينما صاحب الهمة العالية يستصغر ما عظم من الأمر, ويأتي كل المكارم والمحامد.

إنَّ هذه النظرة الثاقبة والرؤية المتأملة ما كانت لتصدر إلا من شاعر بحجم أبي الطيب، وما كانت لتُصاغ على هذا النسق البديع والمقابلة الرائعة، وبهذه الألفاظ الجزلة القوية إلا من رجل خبير ذي تجربة فذة ورؤية حكيمة ولسان فصيح وشاعرية عبقرية، واستهلال قصيدة عصماء بهذه الرؤية يؤكد أننا إزاء شاعر استثنائي، وهو يضيف إلى هذا الاستهلال العميق الحكيم تلك الإشارات الموحية بأنَّ ذلك العظيم صاحب العزم القوي ما هو إلا سيف الدولة القائد المظفر، وما تلك العظائم والعزائم والمكارم سوى ما يشع من شخصية سيف الدولة من شجاعة وحكمة وقوة قد تجلت في هذه المعركة العظيمة.

وشاعرنا المبدع بهذا يمهد بشكل مدهش للدخول في غرضه الأصلي وفكرته الرئيسة، وهي مدح سيف الدولة ووصف شجاعته الفائقة وهمته العالية خصوصاً في تلك المعركة الشهيرة، فسيف الدولة في نظر المتنبي صاحب همة وعزيمة طالما عجزت عن مثلهما الجيوش الكثيرة؛ لأنها كانت تفتقد مثل هذه الهمة الاستثنائية، ولا يقف الأمر عند هذا، بل إن سيف الدولة يريد ممن معه أن يكون مثلَه صلب العزيمة بعيد الهمة, وذلك أمر في الناس نادر وعجيب إذ إنه لا تدعيه الأسود, فكيف يمكن وجوده في مجتمع البشر؟

وتأ مل أيها القارئ الكريم لفظتي (الخضارم) و(الضراغم) وما يحدثه حرف الضاد حين يجتمع مع الخاء أو الغين، إنهما يوحيان بالقوة والشدة والكثرة الكاثرة، فهذه الجيوش الخضارم قد عجزت عن الحصول على همة كهمة سيف الدولة، وهذه الأسود الضراغم لا يمكن أن تدَّعي تلك الشجاعة والقوة والعزيمة التي يتمتع بها هذا الأمير الشجاع، فما بالك إذاً ببقية البشر؟ ثم تأمل تلك الاستعارة الرائعة والمبالغة البديعة في لفظة (الخضارم)، فالخِضرِم هو الكثير الواسع وهو في الأصل وصفٌ للبحر، فكأنَّ أبا الطيب يشير إلى أنَّ الجيوش تعجز عن همته ولو كانت كثرتها مثل البحار الواسعة.

ثم يصور المتنبي القدرة الفائقة والعزيمة المذهلة التي يمتلكها سيف الدولة تصويراً رائعاً وطريفاً عن طريق التلاعب بالألفاظ والاستفادة من علم اللغة وقواعد النحو والمصطلحات الداخلة تحتهما لتأكيد هذه القدرة وترسيخ تلك العزيمة، فإذا نوى سيف الدولة أمراً وعزم على فِعله وكان هذا الفِعل (فعلا مضارعاً) دالاً على الاستقبال أضحى ذلك الفعل ماضياً بمجرد أن ينويه كناية عن وقوعه وتمامه، كل ذلك يحدث قبل أن تدخل الجوازم التي من شأنها أن تنفي الفعل المضارع كنايةً عن العوائق التي ربما أعاقت إتمام هذا الفعل، ولا شك أن القارئ الآن أدرك كيف أبدع الشاعر في توظيف هذه المصطلحات بصورة طريفة مدهشة للكشف عن أبرز صفات سيف الدولة وهي شدة العزيمة وقوة الإرادة، وهي الصفة التي يستشعرها المتلقي منذ مطلع القصيدة.

-