جزء من النص (مترجم)
حين يكون بين يديّ نص شعري بلغة لا أُتقنها وتُرجم بطريقة حقيقية تليق بالنسبة إلى الشعر, ولا تجعلني ألمح رائحة الغربة الثقافية وأسعلُ جراء مسحوق الترجمة, فإن سفيرها هنا هو المترجم وحده؛ لأننا سنَعْرف هذا المترجم بالشاعر أو العكس سنظل نعرف ذاك الشاعر بالمترجم ونبحث عن ترجماته له. ولا أدري هنا أيما الانحيازين أَشْعَر!؟ هل يكون لمبدع القصيدة الشاعر الأصلي أم لمترجمها الشاعر الآخر؟! وبالتعيين حين يكون النص بلغة أخرى نتقنها أو هي قريبة منا اعتياداً, كالانجليزية والفرنسية مثلاً, فأجدني أمام نص فاخر بلغته الأصلية, وترجمة مرافقة بالعربية تشعرني بجمال متداخل مكتمل فلا يفصل بين الجمالين سوى الصفحة, وهذا نادر التحقق إلا لمترجم يعرف من أين تُخْلق الترجمة.
وأضع مثالاً هنا حينما تكون اللغة غير مألوفة على مستوى القراءة والترجمة: المترجم والشاعر الإماراتي الدكتور (شهاب غانم) الذي تصدى بشكل باسق للشعر الهندي في تجربة لم أشعر معها بالفجوة الحضارية التي ردمها شعراً موازياً ربما, وبالخلفية الثقافية, والحِرَفِيَّة آخر الأمر حين قرأت ترجمته لديوان: (كيف انتحر مايكوفيسكي) للشاعر الهندي (ك. ستشدانندن) صاحب المقولة الجميلة: «الشعر قوة ثقافية عظيمة ونبيلة يستحيل قتلها بالمشانق ولا يمكن ترويضها بالجوائز» خلت أنني أقرأ لشاعر عربي من مشاهد الثمانينيات أو حتى ما بعد ذلك حين قرأت:
«التأتأة هي الصمت
الذي يقع بين الكلمة ومعناها,
تماماً كالعَرج
الذي هو الصمت
الواقع بين الكلمة والفعل»
والمثال الآخر: الشاعر والمترجم العراقي الكبير (سعدي يوسف) الذي أنعش مشهد الترجمة برذاذات منعشة من تجربة اليوناني (يانيس ريتسوس) فترجم له الكثير من القصائد كما ترجم لغيره, بشعرية فخمة في الأعمال المترجمة: (على الضفاف الأخرى) وكذا في (إيماءات ريتسوس) وهو الأمر نفسه أيضاً في سياق أن اللغة المترجَم منها غير مألوفة, أو متوفرة كالانجليزية والفرنسية, كما أسلفت. هذا الحاجز قُفز تماماً أيضاً في حال سعدي كلونه قرأ تجربة الشاعر جيداً وتعمق فيها حتى أَشْبَهها لإحساسه كما يقول: « بأن وراء قصيدة ريتسوس جهداً عظيماً وروحاً مصفاة»
«هكذا تألفُ كل شيء
حتى الشيء الذي أدهشنا يوماً
هو الآن مبتذلٌ بائخٌ
ليست الأشياء وحدها التي تبهت
وإنما عيوننا تبهت أيضاً»
هذه اللقطة العَجِلة إشارة فقط لنموذج مترجم متمكن, وإلا فالأمثلة كثيرة كالمترجم المشهور جداً (صالح علماني) الذي ترجم عن ومن الإسبانية شعراً, وغيره من المترجمين.
ويظل المترجم لا ينتج نصاً جديداً إنما الفضل لكاتبه الأصلي, وهذا صحيح إلى شيء ما -وخصوصاً أنني أتحدث عن الشعر-؛ إلا أنه هنا يترجم وفق خصائص اللغة العربية, الأمر الذي يبرز قدرته اللُّغوية وموهبته, مما يجعلني أقول بإيمان: إن الرهان الكاسب في جميع الأحوال هو (المترجم الشاعر) أولاً, والشاعر أولاً أخرى!
-
- الرياض