في دراسات المناهج التجريبية تبدو مبادئ فرانسيس بيكون الأقدم والأكثر عرضة للجدل؛ فقد كانت محاولة للتغلب على أسرار الطبيعة من خلال التفاعل الواقعي معها، ومن خلال المعايشة تُستقى أسس القوانين الطبيعية. بهذا كانت أعماله ميداناً لفحص شامل للأحكام المسبقة التي تأسر العقل الإنساني؛ فقد كان يحاول أن يجعل من استخدام العقل استخداماً منهجياً أمراً ممكناً. حيث يظهر العناصر الموجودة في التجربة التي لا تُربط بهدف العلم ربطاً غائياً. فعلى سبيل المثال، يقول بيكون: إن من بين أوهام القبيلة idola tribus ميل العقل الإنساني إلى تذكر ما هو إيجابي ونسيان كل حالة سلبية instantiae negativae. والقضية هنا هي الإيمان بالمعجزات، الذي يقوم على هذا النسيان الغريب، الذي يتذكر النبوءات الصحيحة فقط، وينسى الزائفة. ويرى بيكون، على الشاكلة نفسها، أن علاقة العقل الإنساني بأعراف اللغة حالة معرفية صرفتها الأشكال الشائعة الفارغة عن الأنظار. وهذه واحدة من أوهام السوق idola fori. فأوضاع هذه الأوهام غامضة وخطيرة في الوقت نفسه، لأن المصاب بها لا يحس أنه واقع تحت تأثيرها. فالأشخاص الذين يظنون أنهم بمنأى عن الأحكام المسبقة، ويثقون بقدرتهم على اتباع إجراءات موضوعية. يخضعون رغماً عنهم لسلطة تلك الأحكام دون أن يعوا ذلك؛ كما أن الأشخاص الذين يرفضون الاعتراف بقوتها وهيمنتها عليهم، لن يدركوا أبعاد تداخلها مع العناصر الواقعية في الموقف أو الرؤية، فيصعب عليهم استخلاص ما هو ذاتي، وما هو تأثيري، مما هو تجريبي وواقعي.
وحالة الخضوع إلى صورة قارّة في الذهن تسمى «سكيتوما»، وهي تحصل في الدماغ عندما يتعامل مع رموز قوية؛ فأفكار البشر المسبقة، التي كوّنها العقل عن مشهد من المشاهد أو حالة نفسية أو عقلية تصبح قوية إلى الدرجة التي تجعل العقل ينكر ما يتعارض مع تلك الأفكار، ويتجاهل أحياناً ما تنقله العينان.
وقد كانت المناهج السيميائية أقرت بفاعلية محركات التأويل في ذهن المتلقي بصورة أساسية؛ فالتلقي مرتبط بالاستنباط والتخمين والاستنتاج انطلاقاً من مقومات بعضها آني، وبعضها الآخر مسبق التكوين، مستعيناً بما يطلق عليه السيميائيون الموسوعة الذاتية (وهي خزان من الأفكار المصنفة وفقاً لذاكرة جماعية وأحكام ثقافية). فلننظر إلى بعض تلك الأوهام عندنا!
فمن أوهام القبيلة لدينا أن لا أحد يتساءل عن سبب وجود عدد كبير ممن يسمون الدعاة، ولا أحد يتناول سيرهم بكل أبعادها الإيجابية والسلبية. والناس يهمسون، أو يتحدثون في مجالسهم، بأن لهم مخالفات كبرى، وتعديات على الدين وعلى الأموال العامة، وفي تشريع عدد كبير من حالات الفساد ونهب أموال الناس. فكيف يكونون وعاظاً دينيين، وهم على هذه الشاكلة؟
الوهم الآخر الذي يبدو أنه من الضخامة، بحيث لا يراه الناس إلا من خارجهم؛ ويتمثل في أن ادعاءات كثيرة تقال بأننا شعب تقي، وأن التعليم الديني المكثف قد أوصلنا إلى حالة اقتداء نسبي بمبادئ الدين، وتمثل للقيم التي أتى بها السلف الصالح. فأين كل هذا الصلاح، والأخبار اليومية لا تنقل لنا إلا ضبط الهيئات لشباب في خلوة، وبؤر للفساد، والعثور على آلاف المشروبات الكحولية، والحبوب المخدرة، والسرقات، والاختلاسات، وسوء معاملة النساء، والتحرش الجنسي؟ قد يقول قائل: إن المهربين ليسوا جميعاً من أهل البلاد، فقد يكون ذلك صحيحاً، لكن بعضهم منهم؛ والأهم أن المستهلكين منهم بكل تأكيد. وهذا يعني بأن أحد الطرفين كاذب: أما الذي يدعي بأننا أتقى شعوب الأرض، وأن تعليمنا الديني المكثف قد صنع منا ملائكة، أو أصحاب الأخبار الذين يصفون نجاحات جماعات الضبط تلك، التي يشيد كثير من الناس بها.
-
- الرياض