(أ)
تاريخيًّا، كانت محاكم التفتيش تُعقد لشخوصٍ ينتمون إلى ديانات مختلفة عن ديانة السلطة الحاكمة، ويتعرّضون للنبش العقدي تحت التجريم الجاهز: (أنّ الشخص مُذنبٌ لمجرّد حملانه اعتقاداً مغايراً)؛ ولست أريد الإشارة إلى حوادث تاريخيّة بعينها كيما يقتصر التصدير عليها، فالسجلات التاريخيّة مليئة بالشواهد على ممارسة أتباع الديانات جميعةً والأحزاب السياسيّة لمحاكم تفتيش وحروب تطهير عرقي وعقدي في فترات مختلفة من تواريخها وعلاقاتها الاستبداديّة بالمغايرين والمختلفين؛ والظنّ بأنّ: (محاكم التفتيش والتطهير العرقي) قد زالا نسبيّاً تأثّراً بالعولمة وبالتقدّم الإنساني المعرفي ّوالأخلاقي القوانين الدوليّة، لا يصمد أمام تحوّلات الاستبداد الفكري من محاكم تفتيش للأفراد إلى محاكم المصطلحات والأفكار مباشرة، بوصفها ممثّل الشخص المختلف؛ وهل كان العنف التاريخيّ للشخوص المغايرين واقعاً لعلّةٍ فيهم أمْ لحملانهم نصوصاً مختلفة! والمسألة: هل يؤثّر المصطلح على العقيدة أمْ حرّاس العقيدة؟ وأيّهما المسؤول عن علّة الآخر: (المصطلح أم الفكر)؟ وعلى من تقع مسؤوليّة إخضاع المصطلح لمحاكم تفتيش ما برحت تأسر العربيّ بتأثيرات مخرجات المحاكم الفكريّة: (المصطلح الإسلامي البديل، أسلمة المصطلح، تكفير المصطلح)، والملاحظة هنا أنّ هذا التوريط لم يقع فيه اليمين الديني السلطوي وحسب، إنّما ورّطَ معه العديد من أتباع المذاهب الفكريّة المدنيّة، وراحوا يقرؤون التاريخ الإسلامي قراءة تفتيشيّة ويخضعون مصطلحات التراث لمحاكم تفتيش لا تقلّ مخرجاتها عن غاية التطهير الفكري لدى سدنة التراث أنفسهم، فإن تمّ تكفير مصطلح العلمانيّة، فإن بعض العلمانيين (كردّة فعل) قاموا يؤسلمون المصطلح، وقس على ذلك الكثير من المصطلحات الفكريّة الوافدة من مركز الحضارة الراهنة، وهو ما يؤكّد إفلاس العربيّ على الطرفين في التعامل مع المصطلحات الوافدة: فهذا الفريق يخضعها لمحاكم التفتيش، وذاك الفريق يدافع عنها بالاستناد إلى المراجع التفتيشيّة عينها، وكلاهما يخضع مصطلحات الآخر على نيّة التطهير الفكري، وأيما إقصاء فكريّ إنّما هو إقصاء جسديّ إنسانيّ، فما الذي يبقى من روح الإنسان إذا تمّ تجريم وتأثيم أفكاره ومصطلحاته.
لذلك فإنّ العربي اليوم (على تعدّد تيّاراته) يتحمّل مسؤولية (إخضاع المصطلح الوافد من الغرب أو من التراث)؛ أوّلاً: لأنّه عاجزٌ على الاستفادة من المصطلحات وإخراجها من حيّز التفكير إلى حيّز القبول والتطبيق والفاعليّة، ولأنّه واقعٌ في التعارض: كيف يحمل مصطلحات فكرٍ ولا يتأثّر به؟! فالمصطلح حامل الفكر، وخادم لحقل فكري يريده التنويري ويدّعي أنّ المصطلحات الفكريّة لا تؤثّر على العقيدة، ويرفضه الأصوليّ ويخشاه نظراً لاعتقاده أن المصطلحات خطراً على العقيدة، من هنا لا يصحّ الاكتفاء بنقد السلطات السياسيّة والدينيّة وتبرئه المفكّر العربيّ من هذا التيه المعرفي والأخلاقي في إشكاليّة تأخّر الحسم فيها منذ قرن من الزمن.
لقد أُخرجت المعرفة في الفكر العربي عن كونها خادمة للإنسان، وتمّ تحويلها إلى أداة تفتيشيّة تستخدم: (للإبدال والإزاحة، أو للتوأمة التوافقيّة، أو للإقصاء والتأثيم)، وهو ما يقع على الأخلاق أيضاً، إذ تستغلّ كمرجع انتقائيّ لتصفية كلّ ما هو مخالف، بينما يسوّق لها على أنّها تحمل استحقاق المرجعيّة والقيمة بناءً لمنفعيّة الإنسان؛ حينذاك يكون الشكُّ بالمعرفة مستحقّاً حينما لا تقدّم المعرفة والأخلاق أيّ إضافة لصالح الإنسان.
هي أزمة العربي مع اللغة إذاً، بوصفها: (حامل الفعل وردّة الفعل، وليست محصورة في دلالة القول فحسب)؛ والمفارقة أن هذه اللغة التي حرّرته وفتحت له الدنيا وسماواتها، فإنّها اليوم سببٌ رئيسٌ في تيهه المعرفي والأخلاقي، لا علّة فيها، بل علّة في حاملها المرهون تحت آليّات الفرز الفكري-الديني، واستعانته في قراءة الأشياء بأبجديّات من خارجها وليست طبيعة فيها. عِلّةٌ في فساد النقل، عِلّةٌ في استغلال العقل، فإذا كان مصطلح الديمقراطيّة قد سحر الإسلام السياسي بعد سنوات من اتّهامه بالتضليل والكفر، فإنّه اليوم يناظر في أتباعه أن (الديمقراطيّة جزء من الإسلام)، لكنّه في الوقت عينه لا يتعامل مع كلّ المصطلحات السياسيّة الغربيّة على مبدأ التبنّي عبر آليّات تأصيل الدخيل وإفراغ المضمون، فكم من مصطلحات يتمّ محاربتها بناءً على إسقاط المعنى التاريخي الخاص على المفهوم السياسي الراهن.
(ج)
ليست محاكم تفتيش المصطلحات حصراً على العرب اليوم والأصوليّين دون غيرهم، فالحضارة الغربيّة مارست وتمارس هذا التفتيش والتطهير الفكري بما تصدّره من مخرجات معاديّة للعرب ومصطلحاتهم وأخرى إسلاميّة تدور في الفلك العربي: (كالجهاد، الكفر، الإرهاب، الإسلام السياسي..) وغيرها من المصطلحات التراثيّة وأخرى وليدة في العالم العربي اليوم أو متعلّقة به، ولأنّ الإشكالية داخليّة بين أفرقاء عدّة لم تحلّ، فكان بديهيّاً أن يكون العربي عاجزاً عن مواجهة التطهير الفكري الغربيّ، ويستسلم في مواقف كثيرة لافتراضاتهم الإقصائيّة، ويقبل -دون حول ولا قوّة- لضبطهم لمصطلحات الإرهاب، الدفاع عن النفس، حق التعايش، الأمن، السلام..) وهي كلّها مصطلحات مسيّسة في ضبطها لمصالح الغرب وإسرائيل، وليس بناءً على ضبط يحظى بالتوافق مع الحقوق العربيّة.
(د)
في عالم مفتوح ولا تُخفى فيه ثقافات الشعوب، أعرافهم، تقاليدهم، عاداتهم، وقوانينهم ودياناتهم تحت انتشار مشاعيّة المعرفة والعلم والاطلاع يُصبح من الضروري إعادة ضبط مصطلحات: (الأصيل، الدخيل، الغريب والأجنبي.. وغيرها من المصطلحات التي تؤثّر على العلاقات الدوليّة والتبادل الثقافي والتعايش الحضاري) لأنّ الأساس في معالجة إشكاليّة التطهير الفكري يقتضي تنقية ما يعلق لدينا من مصطلحات تغذّي الإشكاليّة ولا تسهم في حلّها أو التخفيف من وطأتها، وهي مصطلحات داخليّة وليس دخيلة، أصيلة لدينا وليست وافدة، لكنّها عالقة على حالها زمن نشوئه ولم تتأثّر بكلّ هذا التقدّم والانفتاح؛ فلقد أزيح عن الآخر صفة المجهول، ولم يعد مقبولاً وصفه بالأجنبي/إيماءة للدنس، وأساس الضبط المطلوب هو جزءٌ من الدفاع عن مصطلحاته وعدم تجريمها فقط لأنها من الغريب الأجنبي، أو كما حال مصطلح التراث يحتاج إلى إعادة ضبطه في الطرف المقابل الذي يتحفّظ على التراث تحت تأثيرات الضبط القديم، ولربّما لعلّة في الضبط، وهو ما قد تظهره حالة إعادة الضبط وفق المعلومات والملاءمة المعاصرة.
إنّ طموح المصطلح هو ضبط الانفلات الدلالي للمفاهيم في الحقول الجدليّة والتشريعيّة، ولعلّ (مسألة الضبط عينها، أو إعادة الضبط) هي ما يعرّض المصطلح للمحاكمة، إذ يبدو الضبط مفسدة للاستبداد، لأنّ الاستبداد قائمٌ على الإطلاق وعدم التقييد، فكيف تستقيم العلاقة بين الضبط والاستبداد والتطهير؛ وهو ما يفتح آفاق البحث في أسباب الخوف من المصطلح الوارد لأنّه مضبوطٌ على منظومة صانعه وحضارته، ولأنّ الضبط قرين القانون، فهذا للفكر وذاك للتشريع، فإنّك ترى إخضاع الفكر الوارد ومصطلحاته لتفتيش صارم عبر آليات سلطويّة ودينيّة، تستوجب محاربة الفكر بالدعاية المضادة له.
ولأجل إيضاح العلاقة بين إخضاع المصطلح الفكري وبين الاستبداد، فإنّ المقارنةَ بين قبول المصطلحات العلميّة، وبين رفض المصطلحات الفكريّة كفيلٌ بأن يوضّح السبب الرئيس في التعارض بين النطاقين (العلمي والفكري) ومردّ ذلك أوّلاً: إلى خلوّ الصراع الجدلي في المصطلحات الاختصاصيّة والعلميّة، وثانياً: إلى الامتياز الديني الرابط بين مخرجات العلوم الغربيّة اليوم والمتن المقدّس تفسيراً أو تأويلاً، لذلك لا يضرّهم ولا يهدّد البحث في مزاوجة المصطلحات العلميّة الغربيّة بإعادة تأويل المتن القرآني لكي تتوافق معها، تحت مسمّى (الإعجاز العلمي)، وهو ما يلقى رواجاً بين طبقة (الفقهاء- وعموم التابعين) على الرغم من تعارضها مع مسلّماتهم في الصحّة النهائيّة للتفاسير الإنسانية وإغلاق باب الاجتهاد عند القرن الرابع للهجرة، وهي الشروط التي يضعونها في مواجهة المصطلحات الفكريّة، وذلك لأنّ المصطلح الفكري ذو طبيعة جدليّة ومحلّه التشريع والفقه، وهو ما يؤثّر ويهدّد مصالح الطبقة الدينيّة وامتيازاتها في بقاء الحال على ما هو عليه: أمّة تتعامل مع منجزات الحضارة اليوم وعلومها، بينما فكرها وتشريعاتها وقوانينها من أزمنة أخرى.
-
Yaser.hejazi@gmil.com
- جدة