تُبنى فلسفة الصراع الفكري على إشكالية حقيقة الأصل والطارئ بين طرفي الصراع في المجتمعات ذات الطبيعيَّة الأيديولوجيّة الواحدة؟.
والمقصد من الإشارة إلى وحدة الإطار الإيديولوجي هو التأكيد على أن الاتفاق هو «الأصل» والخلاف هو «طارئ» يتحكَّم في إنتاجه مجموعة من التأويلات قائمة على صيغ من الوجدانيات حَلَّت محل ثابت الجزم.
خلاف تعدد الأطر الأيديولوجية التي يصبح الخلاف هو الأصل والاتفاق المشروط هو الطارئ الذي يُمكن أن يصنَّف في قائمة المصلحة والضرورة والملائمة والتوافق.
تؤسس إشكالية حقيقة الأصل والطارئ المبني عليها فلسفة الصراع الفكري على «الخلاف»؛ وبذلك فنحن وفق القاعدة السابقة -إن الاتفاق هو الأصل- أمام طارئ يتحكَّم في «فلسفة الصراع الفكري»، وأصل يفقد تأثيره في فرض قانوني التصديق والرِّضا لإنتاج عقيدة التَّعايش المشترك وفق الحقيقة المتفق عليها عقلاً وشرعًا لا وفق جبريَّة التَّعايش «مكرهًا أخوك لا بطل».
فكيف يصل «الطارئ» إلى «مركز الأصل» وكيف يتَحوَّلَ الأصل إلى طارئ تَتَغيّر معه معادلة القاعدة الرئيسة؟
وقبل الإجابة على ذلك السُّؤال علينا أن نقف أمام هذه المسألة وهي هل العملية التي يخضع لها الأصل والطارئ هي عملية «تحوّل» أم «تحويل»؟
وقد يُجيب أحدنا: وهل هناك فرقٌ بين العمليتين؟
غالبًا ما تخضع عمليات التحوّل لغاية النشوء والارتقاء وهو ما يضمن توافقًا جمعيًّا عقلاً وشرعًا.
في حين أن عمليات التحويل غالبًا ما تخضع «لغاية التلاؤم» إما عن طريق حالة الاقتضاء أو حالة الضرورة أو حالة المعالجة؛ مما يعني غياب توافق جمعي عقلاً وشرعًا مصاحبًا لحاصلها.
إضافة إلى أن عملية التحوّل هي قوة ديناميكيّة طبيعيَّة لا تخضع للمؤثِّر الأيديولوجي مما يعني أن إمكانية قبول حاصلها لا يمثِّل إشكالية صراع، كما أن إمكانية رفض حاصلها غير مؤثِّر أو مُنتِج لأزمة.
في حين أن عملية التحويل هي عملية قصدية ذات قوة إيديولوجيّة لا تخضع للمؤثِّر الديناميكي إلا في حدود المدى الترددي لذلك العامل كردَّة فعل مؤقتة.
وعملية التحويل هي التي يسبّب حاصلها «إشكالية الصراع»؛ فكونها في الأساس عملية قصدية فهي تبدأ من الأعلى إلى الأدنى مما يجعل حاصلها غالبًا مروجًا لوحدتي الانزياح والتفاضل، وهما وحدتان تكرِّسان الإقصاء والتمييز؛ مما يستدعي معهما «إشكالية الصراع».
أما العوامل التي تُؤثِّر على تحويل الأصل إلى طارئ والطارئ إلى أصل فهي حسبما أعتقد ثلاثة عوامل؛ العامل الأول «غموض الأصل والطارئ وقابليَّتها للتأويل».
إن خاصية التكامل التي تتَّصف بها العقائد التي يظن أصحاب العقائد أنَّها تنقص في خصوصية عقيدتهم أو قدسيتها هي التي تُؤدِّي إلى صفة «الغموض»؛ لأن عملية «القطع» التي يقوم بها أصحاب كل عقيدة لفصل عقيدتهم عن كل العقائد، وأحيانًا اللجوء إلى «القلب» لاستصناع خصوصية تحررهم عن «كلية الوحدة الإِنسانيَّة» وتقرّبهم إلى «امتياز مقدس» وتعطي لهم حق «جدوّلة بقية العقائد الإِنسانيَّة بين العقائد المتطرفة والإرهابيَّة والمُتخلِّفة والظَّلامية هي التي توقع لبس تقييم الأصل عن الطارئ وبالتالي توقعهما في فخ «غموض» يمكن اعتبار حصوله مع سبق الإصرار.
«فثيمة شعب الله المختار» أو «ثيمة آلهة الحُرِّية والديمقراطية» ما هما إلا حاصل»عملية استصدار خصوصية كاذبة أو امتياز خادع عبر «قطع العقيدة الاثنية» عن غيرها من العقائد، وقد يُؤدِّي الغموض إلى «اضطِّراب معامل ثبات الدِّلالة»، وذلك الاضطِّراب هو الذي يشجَّع على التأويل غير المشروط بقاعدة ضبط معرفية مما يعني غياب «جذر القيمة الصحيحة»، وهذه الحالة نلاحظها بصورة واضحة في القراءات التاريخيَّة وتحليل الظَّواهر التاريخيَّة.
وأقصد «بجذر القيمة الصحيحة» «ضابط التنقية والفرز والتصنيف» المؤسس لشرط مدى قابل التصديق لصناعة الحقيقة.
وغياب «جذر القيمة الصحيحة» بدوره يضرّ بمسار الحقيقة باعتبار أن الحقيقة تبنَّى على ما يدخل في «باب عقلانية التصديق» أو «المؤكد المتفق عقلاً».
إن خطورة غموض الأصل والطارئ هو الضرر الواقع على حركة معايير التصديق التي نميز في ضوئها بين المنطقي وغير المنطقي والعقلي وغير العقلي، كما أن غياب معايير التصديق يروّج «للمعلوم المغلوط» باعتباره «مقام صحة».
وهكذا تبنَّى معتقداتنا باعتبار «مقام الصحة» الذي هو الراعي لتصديقية «المعلوم المغلوط».
مما يحوّل «الخلاف على شرعيَّة مقام الصحة» صراع بين أنصار ما يُعدُّ أصلاً وأنصار ما يُعدُّ طارئًا، وهكذا يتَحوَّلَ كل ما يدخل في اعتبار الطارئ وما يدخل في اعتبار الأصل إلى «إشكالية»؛ لأن ما نعتقده من حقائق إثباتًا ونفيًا هو حاصل ما نؤمن به مما يُحسب على جذر الأصل أو مما يُحسب بالإنابة على جذر الأصل.
وبذلك فتلك أصل وطارئ هما من يتحكمان في إقراراتنا ومواقفنا الفكريَّة وخلافنا مع الآخر. وهو خلاف غالبًا ما يُنتج من خلال «ما تعتقده الأنا» مقابل «ما يعتقده الآخر».
وما تعتقده «الأنا» هو «صحة معلومها» المستند إلى الأصل و»خطيئة معلوم آخرها» المحسوب على الطارئ والأمر كذلك بالنِّسبة لِم يعتقد الآخر؛ فهو يعتقد «صحة معلومه» المستند على الأصل و»خطيئة معلوم غيره» المحسوب على الطارئ.
أما العامل الثاني من عوامل تحوّل الطارئ إلى أصل والأصل إلى طارئ فهو «نفعية الطارئ لصاحب السلطة»، مقابل «خطر الأصل» على صاحب المنفعة؛ وفي هذا المقام يواجهنا مأزق «تلفيق حجة الحق» و»استصناع معادل تصديق الحقيقة».
تعتمد حجة الحق على قوة التشريع أو الكفاية القانونية الضامنة للتحكم والتصرف في قاعدة التشريع، وتلك الكفاية لا تكتمل إلا عبر استصدار حقيقة تساند الحق عبر دافعية التصديق والرِّضا الجماهيريين؛ لأن الحق يجب ألا يملك إلا لسانًا واحدًا.
ومن أشهر النماذج على هذه الحالة «الصراع العربي الإسرائيلي» فإسرائيل أكثر من ستين سنة تحاول أن تستنسخ من وجودها الطارئ في المنطقة نصًا تشريعيًّا يثبت حقيقة أنَّها «أصل» تاريخي في المنطقة وفي الوجود الأرضي.
والعامل الثالث «ضعف تأييد الأصل مقابل قوة إظهار الطارئ»، فليس بالضرورة أن صوت الحق أقوى من صوت الباطل وأن صوت الباطل أضعف من صوت الحق.
فالحق من دون كفاية القُوَّة على أرض الواقع سيظلُّ طارئًا، والباطل في ظلِّ كفاية القُوَّة يتَحوَّلَ إلى أصل «فالملائكة لا تمشي على الأرض»؛ أقصد أن إثبات حقيقة القيمة مرهون بكفايات ما تملكه من قوة الواقع، فإذا امتلكت قوة الواقع استطعت أن تصنع لك قيمة تاريخ.
وبذلك متى ما فقد الأصل كفايات القُوَّة تحوّل إلى طارئ ومتى ما اكتسب الطارئ كفايات قوة تحوّل إلى أصل.
إن تقادم الأصل دون حمايته من «التصحر التأويلي» أو «التطرف التفسيري» أو «التجميد الدلالي» يعرضه للضعف أو التقسيم أو التشويش أو التخلف أو التغيب، في حين أن المراعاة الدائمة للطارئ ودمجه بالفاعل النهضوي يوحي بقيمته التأصيلية ويضمن استدامته.
ونتيجة هذا التداخل المقصود بين الأصل والطارئ تولد «الصراع الفكري» بين الاستحقاقات الممكنة والمتكافئة لِكُلِّ منهما الذي تدفع كل منهما إلى إستراتيجيَّة توازن قوى «المعلوم المغلوط»، التي سأوضح أبعادها في الموضوع القادم.
-
sehama71@gmail.com
- جدة