أوصل اعتمادُ المناهج المتعددة والمتنوعة في درس الأعمال الأدبية، خلال ما يصطلح عليه بالانفجار التنظيري، إلى نتيجتين أساسيتين تمثلت الأولى منها في أن ما يأخذ به كل منهج في النظرية والإجراء ليس أكثر أو أقل أهمية مما يأخذ به منهج آخر، بينما تمثلت الثانية في أن الأعمال الأدبية يمكن أن تعتبر «طاقة حية مقدّرة» يجد فيها كل قارئ طلبته فيأخذ منها ما يصرّفه في شؤون حياته دون أن ينقص ذلك من العمل شيئا، وذلك لأسباب كثيرة منها أن الفعل الأدبي هو الحرية وهي تمارس في حدها الأقصى مما جعل الكائن الأدبي ممتنعا عن الخضوع لأي سلطان.
وهذا يُسلِمُ إلى التساؤل عمّا إذا كان اصطناع النظريات والمناهج المتعددة والمتنوعة في دراسة الأعمال الأدبية قد أوصل إلى تقليص المسافة بين الأدب وإدراكه معرفيا.
وممّا يجدر التذكير به في سياق الإجابة عن هذا التساؤل أن المحاولات التي رغب أصحابها في وضع تعريف جامع مانع للكائن الأدبي لم تحظ بإجماع العلماء والباحثين. ذلك أن كلّ اتجاه معرفيّ وكلّ مذهب عقائديّ وكلّ علم إنسانيّ قد اعتدّ أصحابه بوجه ممّا للأدب من كثير الوجوه فأقام عليه نظرته له وطريقة التعامل معه والحقيقة التي يطلبها منه. فأصحاب منهجية التحليل النفساني، مثلا، اعتبروا الأدب مفصِحًا عمّا هو مغيّب مترسّب في أعماق الذات الفرديّة فطلبوه من نصوصه. وأصحابُ الاتجاه الاجتماعيّ قد رأوا فيه صورة من الأبنية الاجتماعية وما يخترقها من عميق التناقضات فطلبوا ذلك من دراسته. وهكذا يمكن أن نستعرض جميع الاتجاهات والمناهج لنرى أن كل واحد منها يعتد من الأدب بظاهرة من الظواهر أو سمة من السمات معينة يقيم عليها الفهم والممارسة.
وهذا يعني، عند التأمل، أنّ هذه النظريات والمناهج المختلفة قد ظلت تنظر إلى الأعمال الأدبية نظرتها إلى غير الأدب من أجناس الكلام والفنون. فهي مثلها تحمل رسالة ومعنى أو تنطوي على دلالة ومعرفة. ولمّا كانت الأعمال الأدبية لا تمتنع، إلا في النادر من الإبداعات المسرفة في الحداثة، عن حمل الرسالة والمعنى أو الانطواء على الدلالة والمعرفة، أخذ كلّ منهج من المناهج ما رآه فيها يستحق الأخذ واعتدّ به، وكان في ذلك غير مجانب للصواب تبعاً لتواتر القرائن الدالة على سداد موقفه. غير أن ما يطلبه كلّ منهج من الأدب يمكن أن يطلبه ويعثر عليه في غير الأدب من النشاطات الفكرية والفنية. نعني أن ما يطلبه هذا المنهج أو ذاك من الأعمال الأدبية ويمكن له أن يطلبه من سواها إنما هو ما يشترك الأدب وغير الأدب في حمله أو الإفصاح عنه أو الدلالة عليه. فعالم الاجتماع مثلا يمكن له أن يدرس المجتمعات دون أن يهتمّ بالأعمال الأدبية التي صيغت في تلك المجتمعات نفسها. وعالم التحليل النفساني يمكن له أن يعثر على ما يطلبه من الأعمال الأدبية وغير الأدبية. وهذا الاقتصارُ على المشترك بين الأعمال الأدبية وغير الأدبية، على أهميته، لا يمكّن من الوصول إلى الوقوف على ما تنفردُ به الأعمال الأدبية وتتميزُ عن سواها من الأقاويل والفنون.
ذلك أن للأدب خصائص خاصة به هي التي كانت، ما في ذلك من شك، وراء تسميته باسم خاص به يدل عليه دون أن يدل على سواه مما قد يشتبه به. وهذه الخصائص الخاصّة به دون أن يشترك فيها مع سواه هي التي لا يمكن للنظريات والمناهج التي تطلب منه ما تطلبه من سواه أن تظفر بها.
فإذا طلبت الدراسات بمناهجها الخاصة بكلّ منها من الأعمال الأدبية معرفة بأحوال النفس الإنسانية أو أحوال المجتمعات أو الشعوب أو الأعمال اللغوية التي تقوم بها وكانت تلك المعرفة مما يمكن الحصولُ عليه من نشاطات بشرية أخرى غير الأعمال الأدبية لم يكن ما تحصل عليه من ذلك الذي تطلبه ممّا يختص به الأدب ويتميّز عن سواه أو يختلف. وهل يمكن، مثلا، أن نطلب ممّا هو مشترك بين أنشطة بشرية متنوعة ما يمكن أن يتميز به بعضها عن بعض؟
وإذا طلبت الدراسات بمناهجها الخاصة بكلّ منها من الأعمال الأدبية الوجهَ الجماليّ معتدّة بما يوفره اندراجُها في الفن من ضروب المتعة، لم يكن ذلك بموفٍ أيضا على ما يختص به الأدب ويتميز عن سائر الأنشطة الفنية وما تتيحه من ألوان الإمتاع الفنيّ. فهل المتعة الفنية التي يوفرُها الأدبُ تختلف أو تتفق مع ما توفره الفنونُ التشكيلية أو السمعية البصرية؟ وما لم تصل الدراسات إلى إقامة البرهان على أن الأدب يمتع على نحو خاص لا تشاركه فيه سائر الفنون كان المدخل الفنيّ الجماليّ، كالمدخل المعرفيّ، قاصرا عن النفاذ إلى ما يختص به ويختلف عن سواه. وها هنا أيضا لا يمكن الاعتماد على المشترك لإدراك المتفرد.
لكن هذا لا يعني أن الأدب لا يتضمن معرفة ولا يوفر متعة. بل إن فيه لمعرفة وإنه ليحدث متعة. غير أن المعرفة التي يحملها الأدب والمتعة التي يحدثها لا تكمن فيهما، منفردين أو مجتمعين، الخاصيّة الخاصّة التي حملت الناس، من أقدم العصور، على اصطفاء نصوص معيّنة بالاختيار وتعهّدها بالحفظ والتدارس ليشتقوا لها، لاحقا، تسمية دالة عليها تتميز بها عن سواها من سائر ما يشبهها من الأنشطة البشرية. وهذا يعني أن النظريات المتعددة التي وضعها الدارسون للأدب والمناهج المتنوعة التي اشتقوها منها لدرسه قد اكتفت منه، في الحقيقة، بما يشترك فيه مع سواه دون أن يخلو منه. أمّا ما يتعلق بخاصية الأدب الخاصة فلا يمكن أن يتمّ إدراكها من هذه السبل.
والذي يبدو غير مجانب للصواب أن الاكتفاء بما تشترك فيه الأعمال الأدبية مع سواها دون أن تختصّ به أو تتميز عنها هو الذي سمح للنظريات والمناهج المختلفة التي اهتمت به أن تجد طريقها إليه. غير أن هذا الأمر إنما يتعقد ويتشعب كلما تأكد لدينا، رغم اختلافها في الفهم والإجراء والحقيقة التي تطلبها، أنها محقة في جميع ما تذهب إليه. وسيظل من المربكات فكريا أن يكون العملُ الأدبي واحدًا وما تقوله عنه الدراسات المستعملة للنظريات والمناهج المتنوعة متعددًا، بل مختلفا بعضه عن بعض إلى حد التنافر أحيانا، وأن يكون ذلك كله وجيها. وهذه في الحقيقة مسألة أخرى فالذي نكتفي به الآن أن تلك النظريات والمناهج المشتقة منها وهي تطلب من الأعمال الأدبية ما تحمله وتتضمنه وتحدثه من معرفة وإمتاع تشترك فيها جميعا مع سواها من الأنشطة الفكرية والفنية لا يوصل إلى العثور على الخاصية الخاصة التي يتميز بها الأدب وينهض عليها كيانه الخاص به بعيدا عن الاشتراك فيه مع أي جنس من أجناس الكلام أو أيّ فن من الفنون.
-
- تونس