يندرج اسم الكاتبة الإنجليزية، فرجينيا وولف(1882-1941) تحت المجددين المبرزين في الرواية الحديثة المسماة بالرواية النفسية أو رواية تيار الوعي ويرتبط، تطور فرجينيا وولف كروائية مجرّبة في أسلوب القص الحديث وتقنياته ارتباطاً وثيقاً بتطورها كناقدة. فتجربتها الأولى في الروايتين: الرحلة إلى الخارج (The Voyage Out (1915 والليل والنهار (1919) Night and Day كانت تقليدية في أسلوب القص. إذ تصف الوقائع وواقع الشخصيات من الخارج، كما يوحي اسم روايتها الأولى. ثم وكنتيجة حتمية لظهور الدراسات السيكولوجية والفلسفية المهتمة بالكشف عن عوالم النفس الإنسانية كتلك التي أصدرها عالم النفس والفيلسوف وليام جيمس (1842-1911) التي تبحث في موضوع تيار الوعي، واكتشافات الفيلسوف هنري بيرجسون (1859 -1941) المدوّية عن الزمن، تكشّف لفرجينيا وولف معنى أعمق وأكثر إثارة لمفهوم الواقع أو الروح (spirit) المحرّكة لهذا الواقع، كما تصف الأمر في مقالتها الشهيرة، «الرواية الحديثة».
فالحياة كما تبدّت» لفرجينيا وولف «ليست مجموعة من المصابيح ذات التصفيف المتماثل»، كما يصورها العقل عادة، «بل الحياة هالة ساطعة، هي غلاف نصف شفاف يحيط بنا ابتداء من الإدراك حتى النهاية». وهذا ما يمكّننا الحدس عادة من استجلائه، فهو وسيلتنا لاستبطان حياتنا الداخلية والنفاد إلى صميم كياننا الروحي، كما هو وسيلتنا لتمزيق حجب المساحة التي تغلّف الأشياء، فتخاطب الروح، الروح الوامضة في الموجودات، متمثّلاً في إحساس الدهشة الأولى. حينئذ تشف النفس فتومض الروح بلحظة التجلّي أو «لحظة الكينونة»، كما تصفها وولف. وتصف لحظات مشابهة لها في حياتها في احد كتب مذكراتها، لحظات الكينونة، Moments of Being . وإذ تؤكد فرجينيا وولف على مهمة الروائي الجديدة، تتساءل، «أليس من مهمة القاص أن يظهر هذه الروح»؟؟
لذا تضع فرجينيا وولف حداً فاصلاً بين من أسمتهم بالروائيين (الماديين) الذين يكتفون بإظهار السمات المادية المحسوسة للواقع الخارجي، والروائيين الروحانيين المهتمين باستجلاء العالم الخارجي من خلال الغوص في الذات حتى حدود اللاوعي حيث الروح الكامنة في النفس والموجودات. في الواقع، إن نضوج فرجينيا وولف النقدي فيما يجب أن تكون عليه الرواية، أعقبه انقلاب هائل في شكل رواياتها ومضمونها لتكون السيدة دالووي (Mrs. Dalloway (1925 أولى رواياتها التجريبية التي تصل فيها إلى النضج الفني.
في هذه الرواية، تهمل فرجينيا وولف الحدث الرئيسي التقليدي، لتستبدله بمجموعة مشاهد يرتبط القارئ من خلالها بوعي الشخصية الرئيسية. مسز دالووي، ليسجل القارئ الشظايا أو «الذرات» atoms» كما أسمتها وولف من كل مشهد أو إحساس أو خاطرة، كما تسقط على وعي الشخصية، ليتبعها القارئ مهما بدت هذه الشظايا غير متصلة أو متآلفة. وبالقدر الذي يكون فيه القارئ متنبهاً لذرات الوعي وتراكماته، بالقدر الذي تتضح له أهميتها في حياة الشخصية الرئيسية بعد مرورها عبر متاهات الذاكرة متنقلا بين الحاضر والماضي ليستقبل أخيرا مع الشخصية الرئيسية، لحظة التجلي حين تكتمل شظايا الحقيقة في وعاء الذاكرة، فتستشف النفس ما استغلق عليها فهمه.
إن فكرة الولوج إلى واقع روحي تتوحد فيه النفس مع الوجود، تسيطر على معظم روايات فرجينيا وولف وكتاباتها، خاصة مذكراتها ورسائلها، وهي فكرة قائمة في حقيقتها على الصراع الأزلي بين الحياة والموت. يسكن فرجينيا وولف ولع شديد بالحياة، كما تجسده مسز دالووي وهي تجوب شوارع لندن في فرح عارم تتصور بأنها أضحت جزءا من تيار الحياة الصاخب المتمثل في أمواج الناس والسيارات المتدفقة في شوارع المدينة. ثم نراها لاحقا تعبّر عن رغبتها في أن تكون جزءاً من الأشجار والحقول والطبيعة والناس.
الحقيقة إن هذه الرغبة في التوحّد بالوجود تسكن فرجينيا وولف منذ الطفولة، كما تؤكد هي في لحظات الكينونة، إذ تروي عن أول مرة اكتشفت فيها معنى الوجود. كانت تتأمل زهرة بتمعن حين تكشّف لها فجأة أن الزهرة هي جزء من الأرض: «هذه هي الزهرة الحقيقية،جزء منها يمثّل الأرض، وجزء يمثّل الزهرة نفسها...تلك هي الزهرة الكاملة». لكن رؤية فرجينيا وولف تقترن بالموت بسبب حوادث الموت المتتالية التي تفقد فيها أمها ويعقبها أختها فأخوها. في كل مرة تفقد فيها أحدهم، كانت تنتابها نوبة جنون تحاول خلالها التخلص من حياتها وحين يتغلب حب الحياة على رغبتها الآنية في الموت، كانت تعود بشغف أكبر إلى الكتابة: حبها الأوحد، ربما لأنها وسيلتها لتحقيق ما لم تستطع إنجازه واقعياً، إذ «يغدو الموت وسيلة للاتصال... في الموت عناق»، كما أكثر رواياتها النفسية إلى الفنار (1927)، المبنية على ذكريات طفولتها السعيدة، حين كانت تقضي مع أسرتها الصيف في منزلها بجوار البحر، تعبر عن ذلك. في هذه الرواية، تمثّل الأم مسز رمزي، التي هي صورة خيالية مستمدة من ذكرياتها عن أمها، جوليا ستيفن، الرمز لعالم مائي يسبح في الضياء، محتضناً بين طياته وجوداً لا يفنى. وليتضح رمز الأم الذي يمثّل حقيقة رؤية فرجينيا وولف الفنية للواقع، ينبغي ربطه برمز آخر يتكرر مراراً في رواياتها وهو البحر. تتصور فرجينيا وولف البحر بحركة المد والجزر اللانهائية ممثّلاً لتيار الحياة الأبدي، كل موجة فيه تمثّل العمر الزمني لأحد الكائنات الحية وغير الحية. وبذلك يجسد البحر تيار الزمن الخالد الذي يضم تاريخ كل الموجودات، منذ بدء الخليقة حتى النهاية. لذا وبدافع من رغبة متنامية من قبلها لتحقيق الخلود، آمنت بضرورة التسامي فوق الذات إلى درجة فنائها لأجل اللّحاق بركب الأبدية وهي رغبة مجنونة تملكتها طوال عمرها بشكل مطرد حتى حققتها واقعياَ بإغراق نفسها في البحر. وقد انعكس الأمر على عالمها الروائي: في طريقة القص بتحولها من الأسلوب التقليدي لسرد الأحداث إلى محاولة اقتناص تحولات النفس الإنسانية في اوج ومضات الروح المارقة باستعمال تقنية تيارالوعي وفي اختيار موضوعات رواياتها، كما يتضح جلياً في انتقالها الصارخ من ذاكرتها الفردية حيث استقت منها أحداث إلى الفنار، إلى الذاكرة الجماعية في بين الفصول التي تمثّل ذروة رؤيتها الجمالية للواقع.
في روايتها الأخيرة بين الفصول (Between the Acts) (1941)، تجعل فرجينيا وولف من حديقة بيت إحدى الأسر الإنجليزية (آل أوليفر) القاطنة في إحدى قرى إنجلترا، مسرحاً لأحداث مسرحية في الهواء الطلق. تجسد المسرحية تاريخ إنكلترا منذ القرن الرابع عشر إلى العصر الحاضر. ولكنه يمثّل للتاريخ الإنساني جميعه ويرمز إلى وعي كوني يضم كل إنسان وكل شيء:»الغنم، والبقر، والعشب، والشجر، ونحن- كلها واحد...جزء من كل». وعن طريق مشاهد المسرحية والمواقف والحوارات، يتكشّف للقارئ أن النفس الإنسانية، بما يصطرع فيها من خير وشر، هي نفسها في كل زمان ومكان. وتقديم المسرحية أمام الأشجار، وحيوانات ترعى خلف الممثلين والمشاهدين، يوحي بالعنصر الثابت في التاريخ، فالأرض والسماء والمراعي لا تزال هي نفسها منذ فجر التاريخ حتى يومنا هذا. تاريخ الأرض يلتقي إذن مع تاريخ الانسانية، ليصبّا معا في تيار الحياة الخالد. الغريب أن فرجينيا وولف بعد ثلاث أسابيع من انتهائها من كتابة الرواية، تنتحر غرقاً.
السؤال هو، ما الذي حفّز فرجينيا وولف لتنحو هذا المسار في رؤيتها للواقع؟ ولنجيب على سؤال مركّب كهذا، علينا أن نُبحر عميقاً في ذاكرة فرجينيا وولف الطفلة التي فُجعت بفقدانها أمها وهي لا تزال غضة العود، في الثالثة عشرة، مما ترك أثراً لا يندمل عليها كإنسانة وفنانة. وكذلك علينا أن نبحر في أعماق ذاكرة الرجل الغربي، الجماعية، كنوع من فهم الجرح الدفين، الكامن في بؤر مظلمة في اللاوعي لديه، والذي وجد سبيلاً أخيراً فيما نسميه حركة الحداثة التي ظهرت في أكثر صورها تأثيرا وهيمنة في بدايات القرن العشرين. فكلا الذاكرتين: الشخصي لفرجينيا وولف والجماعي أو»العقل المشترك»، (common mind), للإنسان الحديث، كما أطلقت عليه، وولف ينبعان فيما يبدو من حاجة واحدة: التعويض عن خسارة الروح!!
* محاضرة بجامعة الملك سعود- قسم اللغة الإنجليزية وآدابها
* هذه المقالة هي جزء من كتاب مترجم عن الإنجليزية سينشر قريباً بعنوان، (استخدام تيار الوعي لتصوير واقع أعمق كما يتجلى في عمل دورُثي رِتشِاردسُن الروائي الحجّ وفي بعض روايات فِرجينيا وُولف)
mayhazmi@hotmail.com
الرياض