«نحو الجنوب» عمل أدبي للكاتب السعودي طاهر الزهراني... يمكننا أن نكشف عن وجهته من خلال العنوان، لكننا لا نستطيع التنبؤ بما في داخله في ظلّ قراءتنا لأعمال أخرى شبيهه به في المعنى، لكنّها بطبيعة الحال مختلفة في المضمون، إلاّ أنّ هذا العمل الروائي يختلف عن أعمال سابقة لغير طاهر قرأتها في هذا الاتجاه، لأنّ (نحو الجنوب) عمل روائي يهرب من الحياة (المدينة) إلى الجحيم (القرية)! بعكس أعمال أخرى تهرب من الجحيم (المدينة) إلى الحياة (القرية)!
فعمل مثل (الحزام) لأحمد أبو دهمان أو (الغيوم ومنابت الشجر) لعبدالعزيز مشري يرحمه الله ... يختلفان عن هذا العمل في أنهما كانا متصالحين مع القرية ومتخاصمين مع المدينة...!
في نحو الجنوب يتخاصم (زهران) بطل هذا العمل مع القرية في أشياء كثيرة... أهمها عادات القبيلة وتقاليدها... حياة القرية التي لا تتجاوز الرعي والرمي (بكلّ أشكاله وألوانه)! والقذف بالكلمات! وحين أربط بين هذا العمل وبين العملين الآخرين فأنا لا أعمد إلى خلق مقارنة، لكنني أحاول قراءة هذه الأعمال وفق الانطباعات النفسية التي تسبق الكتابة عادة ! وهذا بالنسبة لي يعدّ مدخلاً جيداً لتبرير أحداث النصوص ووقائعها، وحتّى مقاربة لغة النصّ بحالة الكتابة والكاتب.
في نحو الجنوب.... تعرية واضحة ومتشفية لواقع القرية، وخصام فعلي مع الحياة فيها... إذ تبدو القرية لدى (زهران) بمثابة مقبرة يدفن فيها كلّ أحلامه وأمانيه،ولعلّ ما يجعل شعور البطل في هذا العمل واضحاً من البداية هي صدمته الغرامية حين أحبّ ومنعته عادات القبيلة المتجذّرة والمتأصلة في عقليّة الأب من تحقيق حلمه! بعد أن كان قبله لا شيء! وأصبح بعده لاشيء... إنّه الحلم الذي يُكْسَر لكنّه لا يُجْبَر! ويبدو أنّ مسوّدة العمل بدأت قبل حدوث تغيرات مكانية وفعليّة في حياة القرية، لأنّ الكتابة الوليدة كانت واضحة في معالم الحياة التي تغيّرت ولو قبل تاريخ الكتابة الفعليّة 2008.
كلّ هذه الأشياء ليست عيوباً في العمل، بقدر ما هي استنتاجات وانطباعات عامة لقارئ أعجبه نصّ أدبي فقرأه... وأراد أن يكتب عنه.
هذا لايعني أن الكتابة في هذا العمل لا تخلو من عيوب... لكنها عيوب قليلة... أهمها حرارة الكتابة التي لم تراع أنّ الرواية ربما تُقرأ من أشخاص كثيرين... يهمهم مراعاة الذوق العام! وقد لاحظت أنّ هناك عبارات كثيرة حشرت بشكل مبالغ فيه، وهناك جُمَل في الكتابة كان يمكن للكاتب استبدالها بأخرى أقلّ وأخف وألطف... لكن يبدو أنّ الكتابة أرادت أن تنسجم مع الحالة، وتعبّر عنها بشكل دقيق،تتوازى مع الحالة والحدث والقيمة، كما أنّ هناك بعض الإحالات تجاوزت النصّ الأدبي إلى الحشو الذي لا قيمة تذكر لوجوده في نصّ أدبي مكتنز بالكثير من المواقف والأحداث والتعبيرات!
ويبدو أنّ طقوس القرية التي لم يتصالح (زهران) معها، أرغمته على أشياء كثيرة لم يألفها، فقد كان مجبراً على أن « أرحّب بالضيف حتى تضيق به الدنيا بما رحبت،وأذبح له الخراف،وأسلخها وأنا عار (ربّ كما خلقتني) وأطبخ له الطعام وأمزع له اللحم بيدي وأعصر له شموع العسل اليابس في الصيف وأهبه سطول السمن البقري...)!.
كما أنّ الكتابة في هذا العمل بنت جلّ معطياتها على إرادة الأب الذي «أعاد ابنه إلى القرية، ليس حبّاً، بقدر ما كانت رغبة أبيه الذي رأى في لسان ابنه اعوجاجا وفي سلوكه تراخياً وفي عاداته وتقاليده انقلابا فأراده أن يبقى دون مسخ»!
كل هذه الأسباب كانت مبررات مقبولة في إعادة (زهران) اكتشاف المعالم الحجرية في بيت جده وحياة العشاق المتصعلكين الذين أحبوا وناضلوا وأحب مثلهم لكنه نفي! فقد تعلّم (زهران) في القرية كل ّشيء، حتّى الاعتراض على شركة الكهرباء التي ركزت أعمدتها في القرية وهو القادم من النور! لكنّ تلك الأشياء لم تستطع أن تصهره في المضمون بقدر ما صهرته في الشّكل الخارجي، وليس كما تفعل المدن بأهل القرى، فهي تصهرهم في المضمون وفي الشكل.. (زهران) حين عاد إلى جدة رآها تلوح أمام ناظريه، لذا اعترف بأنه لم يَعُدْ بشيء!.. فقد عاد فارغاً من كلّ الشعور... عاد كما يقول: «بخفاف يابسة ومتشققة وأظافر منزوعة وندوب في جميع الجسد... لكلّ ندبة قصّة»!
«رجع بوجهٍ كحرفِ سكّين صدئه.. شفاه غليظة.. لثة سوداء من التدخين وأسنان صفراء مقرفة» وهذا كلّه تغيير شكلي، وليس تغييراً في المضمون الذي ذهب برؤية وعاد بها!
أعتقد أنّ هذا العمل كان يحتاج إلى نَفَسٍ أطول، وكتابة هادئة لا تنفعل بالحدث، ولا تستجيب له باللغة؛ لأنّ الكتابة في مثل هذا الشأن تحتاج إلى زوايا مختلفة، وأبعاد لا تركن إلى موقف أو حياة، أو شعور، لكنّها تحتاج إلى غوص أكثر في أبعاد وزوايا ومحرّضات يمكنها أن تتجاوز بالفعل المدينة (جدة) والقرية الجنوب!
الرياض