تعلّمنا منذ أن كنا صغاراً في المدارس أن ما تحمله المقررات الدراسية هو الصواب الذي لا غبار عليه، بل الذي لا يمكن أن يكون عليه غبارٌ أبداً. تعلمنا أن التسليم بصحة كلِّ ما يطرحه المعلّم علينا هو الأسلوب الأمثل والنهج القويم الذي يجب على الطالب الالتزام به، دون نقاش أو تردُّد. وكانت النتيجة لذلك الخلل هي ما نراه اليوم من كثرة الفاقدين للقدرة على الحكم على الأشياء من أبناء الوطن وبناته في كثير من المجالات، فنجد الواحد منهم –وقد بدأ الشيب يخطُّ في عارضيه- يقف عاجزاً عن اتخاذ موقف ثابت واضح من أمر معيّن، وعاجزاً عن الحكم على كثير من الأشياء السهلة الجليّة التي تمر به يومياً، أو التعبير عن وجهة نظره حولها، إلا بعد الاستعانة برأي غيره، أو الانضمام للصوت الأعلى الأكثر تجييشاً للعواطف والمشاعر، أو الأكثر تأييداً وأتباعاً!!
تعلّمنا في مدارسنا، ومجالس علمائنا، وحلقاتنا، وكلياتنا، ومعاهدنا، وجامعاتنا، وغيرها من معاقلنا التعليمية، أن الانقياد للمقرَّر، والاستسلام لمحتواه، يكفل لنا النجاح في المادة من جهة، ونيل رضا الأستاذ أو الدكتور أو الشيخ أو غيرهم من الملقِّنين من جهة أخرى، وأن التفكير في ذلك المحتوى، أو محاولة إعمال العقل فيه، بفرزه وفصل عناصره وتمييز بعضها عن بعض، وقبول المقنع لنا منها والوقوف عند ما يُشكل علينا فيها، ومحاولة فهمها بشكل مجرَّد من (سُلْطة الملقِّن)، فضلاً عن نقدها أو التعمق الفاحص في بعض جوانبها اللامعقولة.. تعلمنا أن كلّ ذلك خطأ فادح وانحراف يجب على الطالب الابتعاد عنه والحذر منه؛ لأن له نتائج جسيمة قد تؤدي إلى الرسوب في المادة، أو انفعال المعلم وتوبيخه للطالب، وربما معاقبته عقاباً جسدياً مؤلماً أو نفسياً مهيناً، كالاستهزاء به أمام زملائه على سبيل المثال.
لقد أفهمونا أن سبيل النقد والاعتراض والحوار والتفكّر ورفض غير المقنع والمفهوم فجور وضلال عظيمان، وأن الاطلاع على الآراء الأخرى المخالفة لآراء القائمين على تلك المنظومة الأيديولوجية المحليّة الصنع جرمٌ شنيعٌ فظيعٌ، يجب على الطالب في المدرسة أو الجامعة أو غيرهما الإقلاع عنه والتوبة النصوح منه.
لقد كانت منشآتنا التعليمية وحلقاتُ التلقين في بلادنا -في نظري- وما زالت، ويبدو أنها ستظل للأسف الشديد، مقابر لملكات التأمل العقليِّ، والتفكير الصحيِّ السويِّ، والنقد الإبداعيِّ الهادف المؤدّي للاقتناع بالمعلومة قبل التسليم للمعلم بصحتها. لقد كانت وما زالت قاتلةً -مع سبق الإصرار والترصّد- لعددٍ جمٍّ من المواهب والقدرات. لقد سعى القائمون عليها طيلة العقود الماضية من عمر هذا المجتمع إلى تجاهل وتهميش أهمية النقاش الموضوعي الإيجابي المجرَّد من سلطة الغير.
إن تلك المنشآت -والحال كذلك- وما يدخل في حكمها من مجالس تلقين أخرى، ليست أماكن صالحة للتعليم الحقيقي المفترض. إنها ليست إلا حظائر ملوثة تُكرِّس وتعزِّز وتُرسِّخ في عقول الدارسين فيها مفاهيم (ثقافة القطيع) التي تجعل الجميع ينساقون -رغم أنوفهم- في طريقٍ واحد؛ لأن أي محاولة للمقاومة أو الاعتراض أو إعمال العقل، أو التفكير الحرّ فيما يقوله المسيطرون عليهم؛ تستلزم بالضرورة تعرض القائم بهذه المحاولة للنطح والجرح، وأحياناً للموت على يد بقية الأفراد.
أعود للموضوع فأقول: إن سياسة (التلقين الأجوف) الذي يطلب من الطالب (الانصياع الأعمى) للوصيِّ المُسيطر، فيروسٌ فتاَّك زُرِع في أعماق الأجيال السابقة، ويجب علينا قتله والقضاء عليه فوراً، قبل أن يتغلغل أكثر في الأجيال الحالية، أو يصل للأجيال القادمة لا سمح الله.
يجب أن يكون للطالب الحقُّ في (مناقشة كلِّ شيء) دون حدود.. دون قيد أو شرط.. وفي جميع المواد دون استثناء. إنه لمن المُتحتِّم على المسؤولين عن العملية التعليمية التركيز على هذا الجانب، ووضعه نصب أعينهم في الخطط التعليمية المستقبلية؛ إذا أردنا لشباب الوطن وشاباته أن يلحقوا بأبناء الشعوب المتقدمة المنتجة الناجحة السويّة المبدعة، في مختلف ميادين النهضة البشريّة الحديثة الساحرة.
أتمنى أن يستشعر الناس عامة، والمعلمون والمعلمات وأساتذة الجامعات بشكل أخصّ وأكبر، خطر هذه (الجريمة البشعة) التي تغتالُ شخصيات الطلاب وملكاتهم ومواهبَهم العقلية، وقدراتهم على التعاطي مع الأشياء بشكل سليم، والحكم عليها بطريقة صحيحة مستقلة، وأن يسمحوا بجميع أنواع المناظرات والحوارات دون حذر، وأن يفتحوا باب الاطلاع على المصادر والمراجع والمؤلفات والدواوين والروايات والمصنفات وغيرها من المناهل المعرفية الإنسانية كافة. يجب أن يفتحوا كل أبواب الثقافة على مصاريعها.. دون خوف أو رهبة؛ فالحجة الأقوى ستنتصر، والمقنع هو الذي سيسود حتماً بكل هدوء ودون أدنى ضجيج.
لا بدّ أن يعلم جميع الناس في بلادنا صغاراً وكباراً.. ذكوراً وإناثاً.. أن أساليب التحفيظ والترديد والتسميع والتلقين وحشو المعلومات في الأذهان دون إقناع؛ يجب أن يعلموا أن هذه الأساليب انحرافات مقيتة عن السبيل النبيل في التعليم، وأعني به سبيل (حرية الطالب) في الاطلاع على ما يرغبه، واختيار ما يقنعه ويراه عقله صواباً، لا ما يفرض عليه بالإكراه.
لقد نتج عن هذه العملية التعليمية الخاطئة المعمول بها في مجتمعنا -كما أسلفتُ- ما نراه على أرض واقعنا من تخبّط واضطراب مؤلمين، في شخصيات كثير من أفراد المجتمع، وفقدان تام للقدرة على إبداء الرأي الشخصي الحُرِّ في أصغر وأدنى وأتفه المسائل والقضايا، ناهيك عن الكبرى أو الهامّة منها. لقد نتج عنها هذا الانسياق الجماعي الملحوظ المرعب في طريق واحد، رغم أن كثيراً من المنساقين -رجالاً ونساء-، غير مقتنعين ببعض الأمور التي تُفرض بالقوة والإرغام عليهم، أو غير قادرين على التفريق بين المقنع وغيره أصلاً؛ ولكنهم مجبرون على الخضوع لها -أي لتلك المفروضات-، لأسباب كثيرة متشابكة معقدة، سأجتهد في الحديث عنها في مقالات قادمة؛ لاستحالة التطرق لها بإسهاب في المساحة المخصصة لهذا المقال الصحفي.
waelalqasm@yahoo.com
الرياض