تعد (المفارقة) من أبرز التقنيات الإبداعية في النص الأدبي، بوصفها أسلوباً من الأساليب التي تمنح الخطاب نوعاً من التميز والاستقلالية، إذ إن ذلك التصادم الذي تحدثه (المفارقة) في النص بين ما هو واقع وما هو متخيل يجعل المتلقي في دهشة كبرى، ويوقعه في نوع من الارتباك والتردد، سعياً إلى التأمل في هذا التصادم، مما يخلق مسافة من التوتر لدى المتلقي، تمنح النص خصوصية، تسمح للقارئ بأن يحلق في فضاءات هذا النص، ويصل معه إلى غاية المتعة والإثارة والتشويق، وهو هدف لا يمكن للمبدع أن يتنازل عنه، حين يمارس عمليته الإبداعية.
وإذا أردنا أن نتحدث عن هذه التقنية فينبغي أن ندخل البيوت من أبوابها، ونشير أولا إلى مصطلح (المفارقة) ومفهومه في بيئة النقد الذي ترعرع فيه، وهو النقد الغربي الذي وجد فيه مجالا خصبا للنشأة والنمو، ولذا كان من الطبعي أن يثير هذا المصطلح كثيراً من الجدل؛ مما أدى إلى نوع من اللبس والغموض حول التحديد الدقيق لما يمكن أن يدل عليه مفهومه، ومن هنا فإن مسألة إيجاد تعريف واضح ومتميز لهذا الأسلوب تظل مسألة تعترضها كثير من العقبات الشائكة.
وحين نرجع إلى القواميس النقدية الأجنبية سنجد أن مصطلح (Irony) مشتق من الكلمة اللاتينية (Ironia) التي تعني (التخفي تحت مظهر مخادع)، و(التظاهر بالجهل عن قصد)، ويتفرَّع هذا المفهوم إلى ثلاثة مسارات يمكن أن تندرج تحته، أولها شكلٌ من أشكال القول يكون المعنى المقصود منه عكس المعنى الذي تعبر عنه الكلمات المستخدمة، ويأخذ غالباً شكل السخرية، حيث تستخدم تعبيرات المدح، وهي تحمل في باطنها الذم والهجاء، وثانيها فيشير إلى نتاجٍ متناقض لأحداث كما في حالة السخرية من منطقية الأمور، أما ثالثها فيفصح عن التخفي تحت مظهر مخادع أو الادعاء والتظاهر، وتختتم هذه القواميس مسارات المفهوم بالتأكيد على أن مصطلح (المفارقة) يُستخدم بشكل خاص للإشارة إلى ما يُسمَّى ب (المفارقة السقراطية) من خلال ما عُرف ب(فلسفة السؤال)، وهي تلك الفلسفة التي كان سقراط يستخدمها ليدحض حجة خصمه.
ولذلك تذكر المصادر أن المرة الأولى التي ترد فيها هذه اللفظة كانت في كتاب أفلاطون (الجمهورية) وقد أطلقه على سقراط أحد ضحاياه، وهي تعني (طريقة ناعمة هادئة في خداع الآخرين)، وتشير كلمة عند (ديموسثينيس) إلى رجل يتهرب من مسؤولياته كمواطن بادعاء عدم اللياقة، كما تعني (إنسانا مراوغًا لا يلتزم بحال، يخفي عداوته، يدعى الصداقة، يسيء التعبير عن أفعاله، ولا يدلي بجواب واضح أبدًا).
وقد مرَّ هذا المصطلح بمراحل متعددة ومختلفة في التاريخ الثقافي الغربي، حتى وصل في مرحلة من مراحله إلى أن يكون طريقةً في الكتابة، ترغب في أن يظل السؤال قائمًا عن المعنى الحرفي المقصود، فثمة (إرجاء أبدي) للمعنى المقصود؛ فالتعريف القديم للمفارقة (قول شيء والإيحاء بنقيضه) قد تجاوزته مفهومات أخرى كثيرة، منها مثلاً أن (المفارقة) هي قول شيء بطريقة تستفز عددًا لا نهائيًا من التأويلات المختلفة.
ورغم أن كثيراً من النقاد الغربيين قد تناول هذا المفهوم بالدراسة والتحليل إلا أن (واين بوث) Wayne C. Booth يظل أبرزهم، ويستحق أن نضيء شيئاً من رؤاه حول هذه القضية، حيث يركز جهوده التطبيقية في كتابه (بلاغة المفارقة) على ما يدعوه ب(المفارقة الثابتة)، ويستبعد في دراسته المفارقات غير اللفظية، والمفارقات الكونية، ومفارقات القدر، ومفارقات الحدث، ورغم أن (بوث) يعترف في هذه الدراسة بصعوبة مصطلح (المفارقة)، ويرى أنه موضوع يتسم بالغموض إلى حد بعيد، إلا أنه يعترف بأهمية الموضوع، ويورد الكثير من الأمثلة التطبيقية على (المفارقة الثابتة) التي يراها مختلفة عن بقية أنواع المفارقات الأخرى، ويشير إلى أن هذا النوع من (المفارقة) قد ظهر متأخرًا وأصبح موجودًا ضمن مفارقات الحدث ومفارقات القدر.
ويقدم (بوث) نماذج متعددة من الأمثلة على (المفارقة الثابتة) التي يجعل لها أربع خصائص تميزها، أولها: أن المفارقات كلها مقصودة، وأنها أُبدعت بواسطة كائنات بشرية كي تُسمع أو تُقرأ ولكي تُفهم بالدقة نفسها من قبل كائنات بشرية أخرى، فهي ليست مقدمات عفوية، أو تعبيرات جاءت بمحض المصادفة، تسمح لمن يبحث عن (المفارقة) أن يقرأها على أنها انعكاسات لأفكار في مواجهة المؤلف، ثانيها: أن كل أشكال (المفارقة) الثابتة خفية، حتى يتم إعادة بنائها بمعانٍ مختلفة عن المعاني السطحية، فهي ليست محض تعبيرات صريحة، ثالثها: أنها تتصف بالثبات، بمعنى أن إعادة بناء المعنى بمجرد أن يوُضع، فإن القارئ ليس مطالبًا بأن يقوِّضه أو يُحرِّفه بوسائل تدمره وإذا ما اختار القارئ أن يفعل، فإنه بذلك يحول أي نوع من (المفارقة الثابتة) إلى مفارقة (غير ثابتة) لكننا طالما سوف نأخذ العلاقة الأولى على محمل الجد، فإنه ينبغي علينا أن نبقى مهتمين فقط ب(المفارقة) المقصودة، أما رابعها فهي أنها محددة عند التطبيق، على عكس تلك المفارقات غير المحددة منها، الثابتة أو غير الثابتة.
بقي أن أشير في هذا السياق إلى أن (بوث) يعتقد أن هذه العلامات الأربع التي تميز السخرية الثابتة تفتح أمامنا موضوعًا يمكن دراسته بشكل متعمق، حيث إن هذه العلامات لا تميز بوضوح بين (المفارقة) والمقاصد الأخرى المقصودة وغير الحرفية والمضللة، وهي دعوة لقراءة ما بين السطور، وثمة حيل لفظية كثيرة: «تقول شيئًا» وتعنى «شيئًا آخر»، وبذا فهي تدعو القارئ لإعادة بناء المعاني المسكوت عنها في الكلام.
Omar1401@gmail.com
الرياض