ربما، لا يختزل هذا السؤال أزمة الكتابة الأدبية في المملكة. بل يطال العالم بأسره. من حيث أنه سؤال وجوديٌ، يسعى الى تفكيك الرؤية نحو الأدب بوصفه فنوناً تختلف في صياغة جملتها التعبيرية، للوصول في النهاية سواء إلى القارئ أم الى النسيان.
بيد أن الهجرة من كتابة القصة القصيرة إلى الرواية، وهو ما درج على السير فيه غالبية كتاب الأدب راهناً. لا يعني انتصار الرواية على القصة، بقدر ما يعني سلوك طريق، آخر، يتهيأ للبعض من الكتاب، أنه يعطيهم مجالات أوسع لشرح جملتهم، التي بات أي نص قصير يضيق بها ولا يفيها حقها في التعبير.
ففي الثقافة العربية، التي كان الشعر ذاكرتها الأدبية منذ نشأته، أصبحت حتى الرواية تضيق بحمله، حتى لا يمكنها أن تستوعب حاضر هذه الثقافة المشحون بتحولات، إجتماعية وسياسية ودينية (طائفية) وعرقية، وكذلك بتطور مستويات المخاطبة الجماعية.
فالقبيلة التي كان شعراء العرب في الجاهلية وفي صدر الإسلام وصولا إلى بدايات القرن العشرين، يخاطبونها بلغتهم العالية والمكتنزة لمعانٍ شتى والمقتضبة في أساليب التعبير. هذه القبيلة، لم يعد لها وجود، بعد أن ارتفع بنيانها وزادت أعداد أفرادها. فهي أصبحت قرية ومن ثم أصبحت مدينة، ومع الثورة العالمية في وسائل الإتصال، أصبحت قبيلة بلغات عدة، وبخلفيات ثقافية لا يمكن للشعر التعبير عنها أو مجاراتها. لكن مع هذا، ثمة تساؤل حول دور القصة القصيرة وما يمكنها قوله ودور الرواية وأخذها مساحات كبيرة في الأدب غطت كليا على القصة، يتضح شيئاً فشيئاً، أنه على قدر كبير من الأهمية. ذلك أن الرواية، لم تعد مجالاً محصوراً بأصحاب المخيلة الكبرى، بل هي مفتوحة للجميع، خاصة، لمن يمتلكون المخيلة واللغة والقدرة على التعبير عن واقع هذه المتغيرات والتحولات التي ترافقها.
والحق، أنه ضمن هذه الرؤية للدور الذي أنيط بالرواية، خاصة عند من كتبوا، قبلاً، قصصاً قصيرة. لم ينجح سوى قلة في منحنا كقراء، المتعة التي كان يمنحنا إياه الأسلوب التعبيري في قصصهم القصيرة. ولأسوق مثالاً ينتمي إلى راهننا، فإن زكريا تامر وهو أحد أهم الكتاب العرب لم يقصر عن كتابة رواية يوماً، لكنه بقي مقيماً في القصيرة القصيرة، لأنها على ما قال لكاتب هذه السطور يوماً « تمنحني غبطة لا يمكن للرواية أن تعطيني إياها « لكنه، والحال هذا، لا تمكنه من ضبط إيقاع النص الذي يمكن أن يفلت من سيطرة الكاتب نفسه.
قالت بدرية البشر ما قالته في قصصها القصيرة. كانت كل قصة، وقتها، على قدر عالٍ من التركيز، وهي والحق حين انتقلت للرواية، جمعت نساء قصصها في نص واحد. لكنها إضافة الى هذا، جعلت من الرواية متراساً لمعارك كان يلزمها نصٌ يعطي فرص كثيرة للتأويل، فلا يضيع الهدف من النص، ولا يمكن للتأويل أن يصل إليه. أغلب الظن، أن البشر اختارت الرواية لهذا السبب ( أخذ إبراهيم يحضر لأمي.. أشرطة دينية كثيرة تتحدث عن الموت وعن عذاب النار وعن الفتن التي تصيب الناس.. وعن قرب قيام الساعة.. وكانت معظم الأشرطة تتحدث عن فتنة النساء ومظاهر الفساد بينهن.. ما جعلها.. تكف عن الحديث والخروج لزيارة جاراتها حتى لا تعود وعلى ظهرها كيسٌ من الآثام ) من هند والعسكر.
ومن طينة تشريحية مماثلة، لوقائع، غالباً ما تسوقها البشر في أعمالها، يمكننا تملس أن الرواية بالنسبة للبشر، كانت العامل الذي يدخل أبطال قصصها القصيرة وحكاياتهم الأقرب دوماً الى الكابوس، في نسق واحد وحكاية تتفاوت الأصوات فيها بين محاور لا يبتغي شيئاً إلا الحوار وبين حالم لا يكاد يقف في الواقع حتى يعود وينفصل عنه وبين واقعي يرى الأشياء بعين جامدة ومجردة، وهي العين التي لم تكن للكاتبة على الإطلاق. ( قالت مي. جاء رجل له لحية طويلة وضع يده على يد ماجد وسحبه بعنف وتكلم بصوت عال مع عواطف، ثم أخذنا كلنا وأركبنا سيارة كبيرة) من هند والعسكر أيضاً. تتحدث البشر بواقعية عن جيلها ومعاناته. هذه المعاناة التي لأسباب كثيرة، كان لا بد من نص وافر يتسع لوضعها في إطار صحيح.
على الرغم من أهمية الواقعية، التي تكتب بها البشر، مضافاً إليها أسلوبها الرشيق والسهل بالكتابة. لم تفترق الرواية عند البشر عن قصتها القصيرة سوى بهوامش بسيطة لم تتناسب حتى اليوم مع الحجم الهائل التي تسير عليه حركة المجتمع في السياسة والتعليم والقضاء والدين.. إلخ. ما يجعلني أعتقد أن البشر لم تكتب، في الرواية، حتى اليوم. ما تريد أن تكتبه فعلياً. فالمواضيع التي تتناولها، يلزمها، على الأرجح نص آخر، نص ينسجم مع ما تريد هي قوله وما تريد تسجيله كذلك. إذ الرواية، التي كتبتها حالياً ما هي إلا امتدادٌ موسع لنص القصة القصيرة.
واقع الحال يقول إن البشر لم تكتب لغاية الآن روايتها المفضلة لها قبل القراء. وما كتبته، أقله حتى اليوم، ما هو إلا تنويعات على هامش النص الذي يفترض أن تتحفنا به لا حقاً. وهي بالتأكيد قادرة على ذلك.
s.m1888@hotmail.com
باريس