خلال إحدى رحلاته الصحفية إلى الشرق الأقصى «سنغافورة»، استغرب صديقنا «رياض» وجود قشور ما يسمى ب»الفستق السوداني» أو «الفول السوداني» منثورة على كامل الأرض الخشبية للكافيتريا، التي دخلها ذات مساء صيفي جميل. حيث كان كغيره من الزبائن الداعسين على القشور، التي «تطقش» و»تفقش» تحت ضغط النعال مطلقة أصواتاً لطقطقات ونقرشات شبيهة بتقصُّف العيدان الجافة في المدافئ المشتعلة ومجامر الحطب ومناقل الفحم!
وما إن جلس في أحد الأركان، حتى لاحظ على كل طاولة من طاولات الكافيتريا ومن دون استثناء «جاطاً» مملوءاً بالفستق وبجانبه «جاط» آخر لوضع القشور. ثم عرف لاحقاً أن الفستق هو تقدمة مجانية من إدارة المحل إلى كل الروّاد.
تأمل «رياض» لدقائق قليلة سائلاً نفسه، عن سبب وجود قشور الفستق على الأرض وجدوى وهدف وجود الجاط الفارغ على الطاولة المخصص للقشور؟ ثم قال لماذا لا تُكنس تلك القشور عن الأرض سيما وأن المحل على هذا القدر من الترتيب والفخامة ورفعة الذوق؟
فجأة، تحرك أحد الخدم بلباسه التقليدي الجميل وتقدم من إحدى الطاولات التي امتلأ جاطها بالقشور، فأخذه بين يديه كمن يحتضن عصفوراً لا يستطيع الطيران، وبحركة مسرحية انسيابية مدروسة ألقى بمحتوياته «فَلْشاً» على الأرض، معيداً «الجاط» الفارغ إلى مكانه على الطاولة!!!
وهكذا تابع صديقنا متعة ذلك: التطقيش وتلك «التأسَسَة» و»الفَقْفَسَة» و»القرقشة»!! وذلك أثناء دخول وخروج الزبائن.
وبعد أن أكل بعض الفستق مستمتعاً بإصدار صوت «الطقش» ووضع القشور في الجاط المخصص لها، بادر إلى سؤال المشرف على الكافيتريا عن سبب ظاهرة القشور هذه التي تتعارض كليّاً مع منطق «ضَبّ» ولملمة الزبالة، وتبتعد عن مفاهيم الحفاظ على البيئة في بلد يرتاده «الأجانب» من جميع الأعراق حاملين معهم شتى الرؤى ومختلف الأمزجة، فلماذا هذا المظهر الفاضح المتخلِّف؟
وبكل كياسة واحترام أجاب المشرف: سيدي، في قديم الزمان كانت الغابات والأدغال تحيط بهذا البلد وكان أهلنا هنا من «الرعاة»، ويعيشون في بيوت خشبية بسيطة واطئة ومتراصة بعضها إلى البعض الآخر، وذلك لخلق الشعور بالاطمئنان والحماية ودرء الأخطار بشكل جماعي موحد. وكانت هذه المنطقة تعج بالحيوانات المفترسة التي تخرج من الغابة ليلاً فتهاجم المواشي والبشر.
وبما أن «الفستق» متوافر لدينا بكثرة، فقد ابتكر أحد حكمائنا الأجلاّء طريقة فعَّالة لإبعاد خطر الحيوانات، وتتلخص في أن تنثر القشور بكثافة على الأرض حول البيوت وحظائر الحيوانات عند حلول كل مساء.
وكان الحراس الليليون من الأهالي يتنبهون لقدوم أي «حيوان» بمجرد سماع أصوات «طقطقة» قشور الفستق تحت قوائمه ومخالبه فيهبون إلى هراواتهم هبّة واحدة ويعلو صراخهم فيصحو الأهالي وتهرب الحيوانات حتى لو كانت من النمور!!
وهكذا، أصبح هذا الأمر، ومنذ ذاك الزمن الغابر إحدى عاداتنا الفولكلورية التي تميزنا بها، وأصبح نثر قشور الفستق بمثابة طقس من طقوس التراث نمارسه في فصل الصحو وعدم هطول الأمطار، وهو دليل وحافز على «الحكمة وجمع الشمل ودرء الخطر من قبل الجميع»!!
سَكَتَ صديقنا «رياض» أمام هذا الشرح لتلك المقولة الشعبية القديمة التي تضاهي في مدلولاتها أعمق المفاهيم الوحدوية التضامنية الحديثة...!!
أيها القارئ العزيز: لدينا الكثير الكثير الكثير من القشور و»الزبالة المميزة»، فلماذا لا ننتبه ونتوحد عندما تداهمنا الأخطار؟ هل لأن قشورنا وحتى ألبابنا باتت لا تفقش ولا تطقش؟ بعد أن تركنا الطقش والفقش للخصور «الرقّاصة» والأدمغة المهزوزة؟!!!
Kahwaji.ghazi@yahoo.com
بيروت