يأتي محور التماثل بين الذاتين الاجتماعيتين اللتين تتقابلان في رواية «اليهودي الحالي» والشخصيات المنتمية إليهما استراتيجية سردية للدلالة على الاتصال والتشارك في مقابل استراتيجية التغاير الذي مثلت الرواية بها –كما رأينا- الانفصال والتمييز والمقاومة، لتوليد حدثها.
وإذا كان التغاير عامل إعاقة ومنع، صَنَع للحدث حدثيته الروائية ومعناه المضاد للتمييز والتعصب، فإن محور التماثل هو المدار الذي يندرج فيه الحدث الممنوع، لتصبح العلاقة العاطفية التي تجمع بين المختلفين واحدة، لا وحيدة، من دواله وشواهده.
إن التماثل Identification بحسب أطروحة كينث بيرك، نظرية توازي الإقناع في البلاغة التقليدية، وهو في كتابه بلاغة الدوافع A Rhetoric of Motives (1950) الذي يندرج ضمن مسعاه في البحث عن الدوافع والغايات الإنسانية وعن أشكال التعبير عنها، وجه من وجوه البلاغة يكشف عن أشكال التوحد والتطابق بين الخطيب والمستمع أو المؤلف والقارئ، من أجل الإقناع، في ترام وسم توجه بيرك البلاغي في هذا الصدد برغبة الكشف عما يسهم في التوافق والسلام وتخليص العالم من ألوان الصراع والعداوة والتفاصل.
وإذا كان التغاير بين الذاتين في رواية «اليهودي الحالي» يحيل على موقع الانتماء من زاوية متعصبة دينياً وقومياً أو وطنياً، فإن التماثل اتساع تجاه المشترك بينهما في أكثر من وجه، وهو –هكذا- مدفوع بالرغبة في التواصل لا القطيعة، والاحتواء لا الإقصاء، والتسامح لا التعصب، والاتساع بالذات لا حصرها وعَزْلها والتضييق عليها.
ويبدو التماثل في ملفوظات الراوي والشخصيات تجاه آخرها، الذي تخاطب الملفوظات فيه وتستثير به ما يجمعه مع الذات المتلفظة ويماثل بينهما، كما يبدو في تمثيل أوضاع ومواقف دالة على التماثل بين المختلفين لأنها بطبيعتها مجاوزة للهويات الضيقة ونابذة لكل تعصب تجاهها.
إن الملفوظات الدالة على الإيمان بالله، دالة على التماثل بين عديد من الانتماءات والطوائف المختلفة. وهي ملفوظات عديدة في الرواية، ومتبادلة بين كلا الانتماءين اليهودي والمسلم تجاه بعضهما.
فاليهودي الحالي ينادي عندما يصل إلى بيت المفتي: «يا أهل الله.. يا أهل الدار» ودعاء فاطمة له «بارك الله فيك.. أغناك وقوّاك» و»أدام الله شبابك وأبهج عمرك» وتُسلِّم فاطمة عليه وتسأله: «السلام عليكم، ما تقولوا حفظكم الله، بشأن قطعة العاج، أين هي؟». وفي الجدل بين أسعد اليهودي والمؤذِّن، يقول أسعد للمؤذن: «اسمعني، أعز الله قدرك» ويقول قاسم بعد سماعه اليهودي الحالي يتلو القرآن: «ما شاء الله.. بارك الله فيك وحفظ صوتك».
هذه الملفوظات بإحالتها على الله وبمنطقها الدُّعائي، تدل على ما يجمع ويماثل الطرفين في الإيمان بالله، وعلى إرادة الخير بينهما التي تتنزل في سياق الكراهية والصراع بينهما منزلة اتصال أعمق، وعمقُه هنا متولد عن سياقها العفوي والتلقائي بوصفها عبارات يومية ومعيشية متداولة من دون تصنيف أو فرز طائفي أو اجتماعي.
ويبدو في الرواية بإزاء ذلك معينات أخرى في الملفوظات وفي المواقف والأوضاع تحيل على الصفة الإنسانية التي يتوارد البشر على التماثل فيها بغض النظر عن طوائفهم وانتماءاتهم، أو تحيل على العلم أو العقل أو الفن أو الاقتصاد أو المحبة ونحو ذلك من مناشط ومشاعر قائمة في الوعي الموضوعي أو الجمالي وبدلالة مجاوزة لكل ارتهان اجتماعي متحيِّز.
فالمخاطَبَة لإنسانية الإنسان باعث تماثل معه، وهذا هو المنطق الذي يحكم ملفوظ فاطمة وهي تخاطب أبا اليهودي الحالي بعد أن منعه من التعلم على يديها في بيت والدها المفتي، خوفاً على دينه، تقول: «أنا أعرف أنه يهودي، لكم دينكم ولنا ديننا. لا توجد مشكلة. كُلّنا من آدم وآدم من تراب». وتتوجه إليه أيضاً مخاطبة إياه بمنطق العلم الواسع وغير المرتهن للتنابز الإيديولوجي، قائلة: «أقول لك، والله، توجد كتب كثيرة في رفوف بيتنا، لو قرأها المسلمون سيحبون اليهود، ولو قرأها اليهود سيحبّون المسلمين».
ويؤدي هذا الخطاب بما فيه من بواعث التماثل والاندماج في الآخر، إلى التجرد من كل مشاعر الانفصال عن الآخر والتعصب عليه والتمييز ضده.
ولذلك يقول اليهودي الحالي واصفاً ردود فعل أبيه على منطق فاطمة: «انبسط وجهه وتجلَّى، كمن استعاد بعض كرامته. لم أسمع أي اشتراطات توقعتها منه لعودتي» ثم يورد قوله لها: «الابن ابنكم، اعملوا فيه ما تريدونه.. كلامكم حالي، يدخل القلب، ويزن العقل». ويرادف ذلك المخاطبة بما يجمع من نسب إبراهيمي بين اليهود والمسلمين ومن أسباب الاتصال في السكنى والإيمان، تقول فاطمة لليهودي الحالي بعد أن علمها اللغة العبرية: «أنتم أبناء عمومتنا، وأحبتنا في الله، وجيراننا».
ويبدو العلم موضع تلاق خارج صراع الذوات، فاليهودي الحالي يتعلم على يدي فاطمة القرا ءة والكتابة بالعربية، ويقول له أبوه محذراً: «اسمعني وافهمني.. تعلّم لديهم القراءة والكتابة، هذا معقول. لكن.. انتبه، حذار أن تتعلم دينهم وقرآنهم» وفاطمة تتعلم منه القراءة والكتابة بالعبرية، ويتبادلان الكتب باللغتين للقراءة، وهي كتب تحمل معلومات ومنهجية عقلانية وروحاً فلسفية، أي أنها تحمل دلالة العلم على المشترك والمتماثل بين الذوات خارج انتماءاتهم.
وتبرز محصلة علمية دالة على جمع المعلومات واستيعابها وبحثها في استشهاد أسعد اليهودي بكلام المفسرين وآيات القرآن الكريم في الحجاج بينه وبين المؤذن، كما تبدو محصلة علمية مثْلُها في حديث حاييم لليهودي الحالي عن تاريخ أورشليم وتقديس الشعوب والديانات لأماكن فيها والصراع عليها.
ولا يتخلف الفن عن العلم في جمعه المختلفين ومماثلتهم أمام جمالياته وما يحدثه فيهم من متعة ودهشة وعدوى انفعالية، فهو لغة عالمية قادرة على مخاطبة الإنسان أينما كان وكيفما كان تفكيره، وقد جمع نورثروب فراي هذا المعنى المتناثر في النظرية والفلسفة تجاه الفن حين قال: «ينبغي ألا ننظر إلى الأدب (وهو بالطبع جزء الفن المعبر عن كله) على أنه تعبير ذاتي عن مؤلفين أفراد فهو ينبع من الذات الجمعية للجنس البشري ذاته».
ولهذا غدا الفن في الرواية أسلوباً لبلاغة التماثل حين تجمع الإنسان في حِجْر المتعة والنشوة والدهشة مغادرة به كل قطيعة تفصل مجموعاته وأفراده عن بعضها.
فالناس يجتمعون حول المغنِّي حاييم لسماع غنائه الجميل، ومشهد الاجتماع مصاغ بوعي بلاغي للتأشير على التماثل والاندماج، يقول اليهودي الحالي: «خرج جارنا قاسم أبو حسين من محلِّه انجذاباً إلى الصوت. أعاد حاييم الأغنية باللحن نفسه، ولكن باللغة العربية هذه المرّة. مرّر نظره علينا جميعاً، وكان قد التف حوله عدد من العابرين والجيران. قال: «كيف الناس؟» وهي تحيته، أو سؤاله عن الأحوال، التي عُرف بها. راح الحضور يحيّونه...».
والفن هو الفن بلا أجناس أو انتماءات، يقول حاييم رداً على سؤال الراوي له «هل تريدني أن أسمعك فنّاً يهودياً أم فنّاً عربيّاً؟»: «اسمع، لا يوجد شيء اسمه فن يهودي، أو فن عربي.. يوجد فن فقط، فن أو لا فن».
ولم يختلف اليهود عن المسلمين في الاجتماع على جمال صوت صالح المؤذِّن وهو يرفع صوته عذباً منغماً بالآذان. واليهودي الحالي، في هذا الشأن، يروي وصف أبيه للمؤذن: «قال أبي إن صوته شجيٌّ، يُطرب القلب» ويروي عنه –أيضاً- أن حاييم رفض تغيير سكنه المجاور للمسجد والذهاب للسكن في حارة اليهود تولُّهاً بصوت المؤذن، وأنه لا ينام إلا بعد أن يسمعه يُردِّد تسابيح قبل صلاة الفجر.
ويبدو الشِّعر وجهاً آخر من وجوه بلاغة التماثل التي تؤشِّر الرواية بها على الاندماج والوحدة بين المختلفين على الرغم من التغاير والاختلاف بينهم الموصول بالعداء والتنافي المتبادل. وشاهد ذلك في الوصف لعمق الانفعال لسماع حاييم قصيدة عربية غزلية من فم اليهودي الحالي. يقول الراوي: «بلغت النشوة أقصاها... عند حاييم. قفز من مكانه وراح يُقبِّل رأسي ووجهي. قال: يسلم فمك الحلو هذا». وتشير الرواية إلى الشاعر والمتصوف اليهودي سالم الشبزي، في قول الراوي: «سمعت كثيراً أن المسلمين يتقاسمون حُبَّهم له مع اليهود».
وإذا كان الفن باعثاً ضمن ما يبعثه، لحس الجمال في الإنسان ومغذياً له تجاه أخيه الإنسان وتجاه الوجود والأشياء والكائنات، بحيث اتخذت منه الرواية متكأ لاجتراح سبب للتماثل والاندماج، وشهادة على وجود ما يجمع أعمق مما يفرق، فإن صفة «الحالي» التي اقترنت في عنوان الرواية وعلى امتداد التكرار لها في متنها بالإشارة إلى اليهودي سالم، تحيل على الموقف من الجمال والشعور به وتتصل بالفن في هذا المعنى من حيث هو انفعال بالجمال وإحساس غامر به.
وهي، للمفارقة، صفة موجبة للمغاير والمختلف والآخر الذي تمتلئ الثقافة بذخيرة من الصفات السلبية المتبادلة معه في التقبيح والشيطنة والمنافاة للجمال والخيرية والإنسانية والوطنية. وقد كانت صفة «الحالي» هذه ملفوظ فاطمة، في نعتها لليهودي سالم، وندائها له، في أوضاع التواصل اللفظي بينهما التي تحكيها الرواية.
وهذا يعني خلق حالة تماثل واندماج بلاغي للتواصل بينهما بالصفة بوصفها تعبيراً عاطفياً عن الاستحسان والألفة بينهما، وبالغرام الذي انعقد بينهما وكانت تلك الصفة إشارته الأولى، فالغرام مثل الفن والعلم لا هوية طائفية أو طبقية له.
إن تمثيل مشاعر الحب والغرام في الرواية ذروة للتماهي في المعنى الإنساني. وهي مشاعر تنبثق من أعماق قصية في الكينونة الإنسانية لا سلطة للوعي الحاد بالتناقضات والتحيزات الاجتماعية عليها.
ولهذا نقرأ قول اليهودي الحالي: «في أحايين كثيرة، تقدّم لي فاطمة الشاي، وتظل تحدق ملياً في وجهي. لا أعرف ما الذي يدهشها فيه. لا تقول شيئاً». ويقول: «أحياناً أبدوا سعيداً، فتقول: اليهودي الحالي ا ليوم سالي.. الله يزيد السرور. وإذا جئت مبكراً: مثل ضوء الصبح جاء اليهودي الحالي. أتأخر فتسأل: ما به اليهودي الحالي بطّأ إلينا؟»... إلخ. و»إذا خطت رجلاي نحو الباب قلت: لا أستطيع أن أحيا بدونك. (فترد) ومن قال أنّك سوف تحيا بدوني...».
ويعلق على كتاب «طوق الحمامة» وكتب أخرى طلبت فاطمة منه أن يقرأها، بقوله: «حوّلني هذا الكتاب، وما قرأته من قبل، إلى كائن آخر، أو لنقل، إنسان له إحساس».
أما التعاطف مع الحيوان فقد كان منفذاً آخر للتأليف والدمج والمماهاة التي توسَّلت بها الرواية إلى بلاغة التماثل. فالحيوان الأليف كائن مشترك في ابتعاث تعاطف الإنسان معه وحبه له، وهو، بهذا، دلالة على التلاقي في المعنى الإنساني، خارج كل تقاطع وتنابذ بين المجموعات الإنسانية. لكن دلالة التعاطف مع الحيوان تؤشر على نمط إنساني رفيع من البشر، وتتضمن تأكيداً مبدئياً على التعاطف مع الإنسان ونبذ كل تمييز ضده.
وتبدو فاطمة في بكائها بحرقة على ذبح الخروف، اختياراً للدلالة في هذا المدار، وهو مدار يتشاركه معها اليهودي الحالي الذي كان يصطحب كلباً سماه «علوس» وفي الرواية وصف منه لأذى الناس له وتعاطفه معه، كما في قوله: «كان بعض الناس، إذا رأونا نمشي سوية، ولا حظوا يدي على رأسه، أو رقبته، أو ظهره، صاحوا: ياكلب» ويعلق على ذلك: «لا أظن أنني شعرت، في يوم ما، أن هناك فرقاً بيني وبينه. وفي حال اكتشاف فروق، فإنني كنت أراه أفضل من كثيرين من النّاس» وقد انتهى أمر الكلب إلى الاختفاء فجأة حين وجد ذات صباح بيته خالياً منه، فواسته فاطمة بإعطائه كتاباً اسمه «فضل الكلاب على كثير ممن لبس الثياب» ألفه المرزباني.
وتشير الرواية إلى تجاور المحلات التجارية في السوق، فمحل النقّاش أبو اليهودي الحالي سالم، ملاصق لمحل قاسم الزنّاط أبو حسين وهو تاجر أقمشة تأتيه من بلاد الدنيا، وإلى جوارهما أسعد اليهودي وآخرين من اليهود والمسلمين في وضع مختلط ومتجاور.
وهذه دلالة تَمَاثل تبني عليها الرواية بلاغة خطابها، وهو تماثل يتكئ هنا على النشاط الاقتصادي، فإنتاج السلع وتصنيعها واستيرادها وتجزئتها وممارسة المهن اليدوية المختلفة حاجة إنسانية لا تختص بها فئة اجتماعية أو طائفية دون أخرى، بل لا يقوم بها شخص بمفرده. إنها منشط اجتماعي يقوم على الاعتماد المتبادل. واليهودي الحالي حين جاء إلى بيت المفتي وهو أبو فاطمة، أول ما جاء، كان يُحْضِر الحطب، ثم جاءهم ليصلح القَمَريَّة.
الرياض