في عصور (الخيل والليل والبيداء) كان كل ما يعيشه الأديبُ أدباً، وكانت القصيدة لا تحضر وحدها أبداً، بل تحضر معها سيرة شاعرها والظروف التي دفعته لقول قصيدة معينة، والمقاصد التي رمى إليها في قصيدته..
أما في العصر الحديث (عصر النفط والتكنولوجيا) فبالكاد نعترفُ ببعض الشعر أدباً، وبالكاد تحضر قصيدة في غير موضعها - فلا أحد يعرف موضعها أصلاً! - وإذا أردنا الكلام عن قصيدة فالكلام يكون عادة عن الذي أحدثته القصيدة بعد أن قالها الشاعر، ولا أحد يحاول اكتشاف ما حدث للشاعر حتى قال قصيدته!
يحضرني في مقاربة هذه (المعادلة) نموذج شعريّ يتضمن مفردتيْ (الضحك والبكاء) في بيت واحد، كما في قصيدة (أرقّ الحسن) للشاعر اللبناني بشارة الخوري (1885 - 1968) المعروف ب(الأخطل الصغير) والذي بويع (أميراً للشعراء) خلفاً لأحمد شوقي عام 1961. يقول الأخطلُ الصغير في مطلع قصيدته الشهيرة: يبكي ويضحك لا حزناً ولا فرحا كعاشقٍ خطَّ سطراً في الهوى ومحا وقد اشتهر هذا البيت شهرة واسعة بين الناس، فقد غنته السيدة فيروز، وغناه عددٌ من المطربين والمطربات بألحان مختلفة لم تضف شيئاً إلى موسيقى الكلمة في البيت والقصيدة سوى ذيوع الصيت والانتشار.
فحين يذكر هذا البيت نتذكر على الفور أصوات من تغنوا به ولا أحد يعرف القصة التي تكمن في مفرداته ومعانيه..
على العكس من ذلك قول (الأمير الأسير) أبي فراس الحَمْداني:
أيَضْحَكُ مأسورٌ وتبكي طليقةٌ
ويسكتُ محزونٌ ويندبُ سال
فبرغم أداء المطرب العراقي الراحل ناظم الغزالي للقصيدة في مواويل خالدة، وغناء غيره من المطربين والمطربات، إلاّ أن ما يحضر في الذاكرة بمجرد سماع (أيضحك مأسورٌ وتبكي طليقة) هو الأمير أبو فراس الحمداني (الحارث بن سعيد بن حمدان 932 - 968م) وهو أسيرٌ في سجن الروم، ويستمع إلى نواح حمامة من خارج السجن فيخاطبها شعراً:
أقولُ وقد ناحتْ بِقُرْبي حمامَةٌ
أيا جارتا هل تشعرين بحالي؟
إلى قوله:
أيا جارتا، ما أنصفَ الدهرُ بيننا
تعالَيْ أقاسمْكِ الهمومَ تعالي
تعالَيْ ترَيْ روحاً لديَّ ضعيفةً
تردّدُ في جسمٍ يُعَذّبُ بالِ
أيضحكُ مأسورٌ وتبكي طليقةٌ
ويسكتُ محزونٌ ويندبُ سالِ؟
لقد كنتُ أولى منك بالدمع مقلةً
ولكنّ دمعي في الحوادثِ غالِ!
قصة الأمير الأسير معروفة، ومخاطبته للحمامة الباكية وهي طليقة في حين يضحك هو في أسره باتت مضرب الأمثال منذ زمانها وحتى اليوم.
أما الباكي الضاحك في قصيدة الأخطل الصغير فلا أحد يعرف المعنيّ به، ولا قصته.. وتلك هي المفارقة والاختلاف بين عصرنا الحديث وما قبله من عصور.
فالشعر هو الشعر، والضحك والبكاء هما الضحك والبكاء، وكلا الشاعرين كان (أميراً) في مجتمعه – وبين وفاة الشاعرين ألف عام بالتمام! - فهل اهتمام الناس بما وراء الكلمة من دوافع وأحداث قد خَفَتَ حتى تلاشى؟ أم هو الشعر قد بات في عصرنا (الحديث) بلا دوافع وأحداث من ورائه غير الضحك والبكاء للضحك والبكاء؟!
ffnff69@hotmail.com
الرياض