ألا تستحق ظهورنا أمثالاً قوية، وداعمة لقيمتها لنا في الحياة، وفي الإنجاز والراحة، أكثر مما يوجد في لغتنا؟ عندما حاولت أن أتذكر مثلاً يُنصف الظهر، ويعطيه قيمته التي يحتلها فعلياً، دون شكر منا، لم أجد؛ فاضطررت إلى تحوير المثل المعنون أعلاه. المؤسف أنه في ثقافتنا القديمة يكنى بالظهر للدابة (ليس معه ظهر: لا توجد لديه دابة يركبها)، وتماثلها في ذلك التكنية للمرأة، مع أن الرجل لا يمتطي ظهرها (لكن اللغة لغة رجال)!
يوجد اعتراف منا في لغتنا اليومية بطريقة غير مباشرة بما يقوم به الظهر من إسناد ودعم، وذلك من خلال الاستعارة، التي يُسمى بها من يقوم بالواسطة القوية جداً، التي تؤدي بالشخص إلى الوصول إلى هدف، أو الحماية من المساءلة بعبارة، مثل: «عنده ظهر»!
أعرف أن مقال اليوم قد يستهوي الفئة التي عانت من آلام في الظهر، دون غيرهم؛ لكنهم - للأسف - كثيرون؛ وإن كانوا مختلفين في درجة المعاناة، وفي الإحساس بأن لديهم مشكلة، أو قد تكون معضلة صحية مزمنة.
نبدأ من وصف أساس المشكلة، التي تتعلق في جوهرها بطبيعة حياتنا المعاصرة؛ فيوجد عاملان هما الأكثر تأثيراً في نشوء أسبابها: العامل الأول طول فترات الجلوس؛ إما للتسلية الجماعية، أو لمتابعة وسائل الترفيه الحديثة (من برامج تلفزيونية في القنوات التي أصبحت تهبط من السماء، وتذهل الناس بتنوعها، مما يغريهم بالبقاء أمامها طويلاً؛ إلى الألعاب الالكترونية، التي تزيد عن طول الجلسة بتسببها في اتخاذ الجسم أوضاع غير صحية، وحركة مستمرة للعضلات، بالإضافة إلى توتر عصبي ونفسي أحياناً؛ ولا تقل عنها أجهزة الحاسوب، التي أصبحت ضرورة في العمل، بالإضافة إلى كونها مدخلاً إلى العالم الكوني بعد ابتكار شبكة الانترنت، ثم مواقع التواصل الاجتماعي المتعدد الأغراض). أما العامل الثاني، فهو سوء تعامل البشر في العصر الحديث مع وسائل الحياة المختلفة في منازلهم وأعمالهم؛ بدءاً بأطفال المدارس (الذين نتناول قضيتهم في الجزء الثاني)، ومروراً بربات البيوت، اللائي يتعاملن باستخفاف مع قطع الأثاث أو الأعمال المنزلية (حتى وإن أوكلت إلى خدم يقومون بها، فإنه يتبقى بعض ما يؤدي منها إلى خلل في سندنا الدائم)، وانتهاء بالرجال في أعمالهم، التي قد يتطلب بعضها نشاطاً عضلياً يؤثر - إن لم يتم بطريقة صحيحة - في فقرات الظهر، كما يتأثر - دون شك - بوجود العامل الأول. فالإنسان إذا اعتاد على قلة الحركة، تصبح كثير من نشاطاته العضلية تحتاج إلى تدريب، وعضلاته إلى تنشيط.
ومما يؤكد فاعلية هذين العاملين في نشوء المشكلة، أن بعض الدول الاشتراكية (سابقاً) في أوربا الشرقية لم تكن شعوبها تعاني من تلك الآلام المزمنة، بالدرجة التي كان الغربيون يعانون منها. ويعود ذلك في جزء كبير منه إلى قيام الأوربيين الشرقيين بنشاطات بدنية أكثر، وإلى توفر عوامل ترفيه أقل، مما جعلهم غير مضطرين إلى الجلوس لأوقات طويلة. فبعد وحدة الألمانيتين مباشرة (1991 - 1992)، كانت نسبة من يعانون من آلام الظهر في ألمانيا الشرقية في حدود 27% من السكان، بينما كانت النسبة في ألمانيا الغربية 39%. وبعد عشر سنوات من الوحدة (أصبح فيها سلوك الشرقيين مماثلاً لسلوك الغربيين) أصبحت النسبة متقاربة. وهذا ما يفسر تدني تلك ملاحظة تلك الآلام في المناطق التي لم تزحف إليها التقنية الحديثة، مثل أفريقيا الوسطى والغربية، وبعض مناطق آسيا، التي يعتمد فيها الناس على جهودهم العضلية.
هناك أمور غريبة، ومفاجأة، ودعوة عامة بهذا الشأن، ستكون محور حديثنا في مقالة الأسبوع القادم!
الرياض