لو أن هذه الدارة ليست سوى صالة عرض جمعت فيها الفنانة صفية بن زقر معظم لوحاتها، وخاصة تلك التي تحتفي بالتراث الشعبي في الحجاز وكثير من مناطق المملكة العربية السعودية، لكفاها فخراً، فهي صالة فخمة وأنيقة تعطينا فناً راقياً كما تمنحنا دروساً في أنماط الحياة الشعبية في أزمان ماضية، فاللوحات عبارة عن سجلات تاريخية تقبض على مظاهر العيش وطرقه في القديم الذي ولى ولم يترك سوى الأثر الغالي في ذواكر من عاشوه.
لكن الحقيقة أن الدارة تحمل بين جنباتها مشاريع وأنشطة فنية وثقافية مختلفة، فهي أيضاً متحف لحفظ الملابس التراثية من أنحاء المملكة، ملابس أصلية عملت الفنانة على البحث عنها وشرائها ومعالجتها ثم عرضها بشكل جذاب ومنظم مع بطاقات توضح كل ما يتعلق بالزي ومناسبته. كما أن بها أدوات للزينة والمجوهرات المصاحبة للملابس، وقطعاً أثرية أخرى.
وبالدارة أيضاً أتيليه لتعليم فن الرسم من خلال دورات للفتيات الصغيرات والسيدات الراغبات في تنمية مواهبهن، كما أن بها مكتبة ثرية للأطفال وأخرى متخصصة تحوي الكثير من الكتب الفنية التي توفر مراجعاً مهمة لطالبات كثيرات يدرسن الفن والملابس التقليدية في مراحل البكالوريوس والماجستير وحتى الدكتوراه. وللدارة أنشطة تركز على الأطفال مثل المسابقة السنوية التي يشارك بها أكثر من مائة طفل لرسم موضوع تعلن عنه ثم تجمعهم للمنافسة ثم الفوز بجوائز مجزية. وتقيم الدارة فعاليات مختلفة أهمها المجلس الثقافي الذي ينعقد مرة كل شهر لمناقشة مواضيع ثقافية وفنية متنوعة.
في ليلة الاحتفال بمرور سبعة عشر عاماً على تأسيس الدارة حضرت الدارسات والمدرسات والفنانات والمرتادات للدارة وصديقاتها يشاركن صاحبتها الفرحة ويعبرن عن أملهن في استمرار العطاء القيم الجميل. وتحدثت أنا في الحفل كصديقة للدارة وأكدت على أهمية النشاط الثقافي في المجلس الذي كنت من حاضراته ومحاضراته على مدى سنوات طويلة، ودعوت لصاحبة الدارة بدوام الصحة والعافية:
ما الذي يدفع فنانة تحب الرسم إلى تأسيس صالون ثقافي؟
هذا السؤال راودني في أول يوم دعتني فيه الأستاذة صفية بن زقر لارتياد صالونها الذي كانت تستقبل فيه ضيفاتها في بيت بن زقر. شعرت يومها أنني أخوض تجربة مختلفة، فقد كنت في زيارة شكلاً، لكن الأمر مختلف موضوعاً. كانت أحاديثنا ونحن ضيفات في صالون تدور حول مواضيع ثقافية بحتة ولم نتطرق إلى الأحوال المعيشية الخاصة والعامة. كانت الأستاذة صفية في الاستقبال تحيط ضيفاتها بجو من الألفة وطيب اللقيا، لكنها كانت تشرف على إدارة المناقشات الموضوعية بكل هدوء واتزان وتضمن الجدية في الطرح والمضمون، فلا يتحول الصالون إلى مكان للتنادي وتبادل التحايا والتقاليد الاجتماعية المعتادة.
لماذا حرصت الأستاذة صفية على هذا الجهد في كل شهر؟
راودني السؤال ثانية حين افتتحت هذه الدارة وانتقل إليها الصالون ليتحول إلى مجلس ثقافي ابتعد عن هيكل الاستضافة والزيارة وتبلور ليصبح ملتقى ثقافيا حضاريا يحقق نقاط تواصل مجتمعي وارتقاء فكري. وتتابعت الجلسات الشهرية التي تُطرح فيها قضايا ذات طابع ثقافي فكري وفني، فالمجلس يوفر للمحاضرات والحاضرات منبراً حراً لتبادل الآراء في مسائل مختلفة ويتيح لهن فسحة للحوار المفتوح.
كانت الأستاذة صفية سباقة إلى تأسيس أول صالون أدبي نسائي في المملكة، وهي بالطبع صاحبة أول مجلس ثقافي يعمل كواحة مصغرة لاحتضان الثقافة والفكر. تلعب هذه الواحة دورا تاريخيا في إثراء الحركة الأدبية والثقافية النسائية، فمواضيعها المختلفة تتمحور حول أهم القضايا الفكرية والفنية، وقد تمت استضافة أديبات وشاعرات وإعلاميات وفنانات وسيدات أعمال وأكاديميات وعدد لا بأس به من رجال الفكر والفن عن طريق الدائرة التلفزيونية، فأسهمت تلك الاستضافات في رفع درجة النضج والوعي والاطلاع.
هل أرادت الأستاذة صفية بن زقر أن تزداد وجاهة وبريستيجاً بهذا النشاط الثقافي غير المسبوق؟
هذا احتمال غير وارد مطلقاً، فنشاط المجلس الثقافي لا يروم شهرة واسعة ولا ضجيج مفتعل ولا تصل إليه أضواء الإعلام، ولا يرتاده سوى عدد قليل من الضيفات المهتمات بالتحصيل المعرفي. إضافة إلى ذلك فالمجلس الثقافي لا يحرص على أن يكون نخبوياً متخصصاً، ولا يهتم بالاحتفاء بالأسماء المعروفة كي لا يطغى الجو الاحتفائي على اهتمامات الثقافة. المجلس الثقافي ضرورة لا ترف، فهو مكان مغلق العضوية، لكنه مفتوح لنقاش بلا قيود ولا تظاهر، وهو حريص على التواصل بشكل غير رسمي مع المثقفات اللواتي لا تسبقهن الشهرة ولا المكانة المرموقة.
لماذا إذاً تحمل الاستاذة صفية هذه المسئولية الإضافية فتفتح مجلسها الثقافي كل شهر وتبذل من أجله كل جهد؟
وقد رأيت بنفسي مصداقية العمل المضني في هذا المجلس، ولامست التعب المبذول في الإعداد والتحضير والمتابعة بالعلاقات الشخصية ومن خلال رسائل الجوال والاتصالات الهاتفية والإيميلات، متابعة جادة لتحقيق الأهداف بشكل عملي وواقعي. في كل مرة تلاقي الأستاذة صفية ضيفاتها وهي في قمة السعادة فيلقين منها كل المودة والرعاية حتى يغادرن المجلس مسرورات يثنين على لطفها وحسن خلقها وطيب ترحيبها.
كيف يصبح هذا المجلس مصدر سعادة وارتياح لصاحبته؟
كل هذه الأسئلة وجدت جوابها حين عرفت شخصية الأستاذة صفية بن زقر عن قرب، فهي فنانة شاملة تحمل في روحها هاجساً ثقافياً يجعلها تخرج عن ذاتها لتشارك غيرها في رسالة معرفية تنويرية. هي صاحبة الصالون والمجلس والدارة، لكنها قبل كل ذلك هي صاحبة الرؤيا والطموح، صاحبة الفكرة الخلاقة والفاعلة. أرادت صفية أن توفر للنساء من حولها رافداً مهماً لتفعيل الثقافة المجتمعية بعيداً عن إطار المؤسسات الثقافية الرسمية، وما زال صالونها يقدم عطاءاته بانتظام وتقدم مستمر لأن وقود مسيرته مستمد من روحها المتوهجة بحب الأدب والفكر والفن.
من الصالون الأدبي إلى المجلس الثقافي اتسمت الجلسات بطروحات ثقافية وتنويرية في مختلف العلوم والمعارف والاتجاهات وكرست مبادئ الحوار الراقي وأسهمت بشكل قوي في تنشيط الحراك الثقافي النسائي.
كان من الطبيعي بعد كل ذلك أن نلتف حول الأستاذة الفنانة صفية بن زقر صاحبة الحلم وأن نشاركها فرحتها بمرور هذه الأعوام السبعة عشر وأن نحتفي معها بهذا الإنجاز الرائع لعملها الدؤوب الذي حول أحلامها إلى حقائق ناصعة نفخر بها ونعتز.
كل عام وصفية بن زقر بخير ودارتها في نشاط وحيوية وجمال.
lamiabaeshen@gmail.com
جدة