Culture Magazine Thursday  08/11/2012 G Issue 384
ترجمات
الخميس 23 ,ذو الحجة 1433   العدد  384
 
عند ما تحمي منظمات المجتمع المدني مصالح الناس 4-4
المحامي رالف نادر يبتكر فكرة «حماية المستهلك» ويؤسس جمعية «المواطن العام» لتمارس هذه المهمة
د. حمد العيسى

 

أحدث كتاب «غير آمنة على أية سرعة» الذي أصدره عام 1965 المحامي الأمريكي الشاب رالف نادر، الذي لم يكن يتجاوز الثلاثين من عمره، «ثورة كوبرنيكية» (1) -بحق- في عالم صناعة السيارات أسمتها مجلة تايم ب «ثورة المُسْتَهْلِكِين»، وعرفت فيما بعد بحركة حماية المستهلك، وامتد تأثيرها الريادي ليشمل جميع أنحاء العالم. فما هي الحكاية؟

رالف نادر محامٍ، وناشط سياسي، ورائد حركة «حماية المستهلك» في الولايات المتحدة الأمريكية والعالم. ولد عام 1934 في وينستد، ولاية كونيتكت. وهو الابن الرابع والأصغر لأبوين عربيين مسيحيين مهاجرَين من لبنان كانا يملكان مطعماً.

تخرج في جامعة برنستون عام 1955، وفي كلية هارفرد للقانون عام 1958. وكان قارئاً نهماً.. حتى إنه كان يُشاع من قبل زملائه، أثناء دراسته في برنستون، أن لديه نسخةً شخصية من مفتاح المكتبة العامة!

بدأ اهتمامه بحماية المستهلك أثناء دراسته في هارفرد، حيث درس العديد من حالات حوادث السيارات، وكتب أول بحث له بعنوان مثير هو «السيارات الأمريكية: صُممت للموت»! وفيه قدم نادر استنتاجاً مهماً سوف يصبح فيما بعد (في منتصف الستينيات تحديدا) محور اهتمام الأمة الأمريكية بأكملها، بل وسيؤثر على صناعة السيارات في كل أنحاء العالم. لقد كان استنتاج نادر بسيطاً، ولكنه كان ثورياً بكل معنى الكلمة؛ لأنه كشفَ أن «حوادث السيارات التي تنتج عنها وَفَيَات لا تحدث فقط بسبب خطأ السائق كما تُوهمنا شركات السيارات دائماً، ولكن أيضاً بسبب التصميم الرديء لهذه السيارات»! ولعل أهم ما طالب به نادر في بحثه هو حزام الأمان الذي لم يكن معمولاً به في ذلك الوقت.

عمل بعد تخرجه في مكتب محاماة خاص وفي التدريس الجامعي وخدمة المجتمع في ولاية كونيتكت. ولكنه قرر في عام 1963 هَجْرَ المحاماة والتوجه نحو واشنطن، دي سي، حيث عمل مستشاراً في وزارة العمل. ثم أعد نادر دراسة حول المسؤولية الفيدرالية عن سلامة السيارات، كما عمل شاهداً لإحدى لجان الكونغرس الفرعية التي يرأسها السيناتور أبراهام ريبيكوف في موضوع سلامة السيارات. ولكنه ما لبث أن استقال من الوزارة، وتفرغ بالكامل لإنجاز ما سيصبح أشهر عمل في حياته: كتاب «غير آمنة على أية سرعة: الأخطار المُصَمَّمَة في السيارة الأمريكية». صدر الكتاب، الذي يتكون من 365 صفحة، في نوفمبر 1965، وأصبح فوراً من أكثر الكتب مبيعاً. وفي الكتاب، رسم نادر صورة قاتمة لإصابات ووَفَيات حوادث السيارات، موضحاً أن 700‚47 شخص قتلوا بسبب حوادث السيارات عام 1964 فقط.

وبشجاعة، يُعتقد أنه استلهمها من مشاركته في حركة الحقوق المدنية المُتّقدة، واجه نادر بجرأة -في هذا الكتاب- كبريات الشركات في العالم. وقد رصد فيه بالتفصيل عيوب السلامة في السيارات الأمريكية، وأشار إلى معارضة هذه الشركات إدخالَ تحسينات من أجل تطوير مستوى السلامة مثل أحزمة الأمان رغبة منهم في خفض التكاليف وعدم نقص الأرباح. كما استهدف بوضوح سيارة شيفروليه كورفير التي تنتجها أكبر شركة سيارات في العالم: شركة جنرال موتورز. لقد استطاع نادر -بذكاء- تقديم الدليل على أن السائق يمكن أن يفقد السيطرة على الكورفير حتى عند ما تكون تسير ببطء، مما يجعلها «غير آمنة على أية سرعة». كما كشف نادر استهانة جنرال موتورز بسلامة الشعب الأمريكي؛ لأنها صرفت في عام 1964 مليون دولار فقط على أبحاث السلامة في الوقت الذي بلغت فيه أرباحها رقماً قياسياً خيالياً هو 7‚1 مليار دولار!

بالطبع.. غضبت شركات السيارات وخاصة جنرال موتورز. وبدأت جنرال موتورز حملة سريّة هدفها وضع حد لجهود نادر. استأجرت جنرال موتورز مخبرين سريين لنبش ماضي نادر، وعند ما لم يجدوا فيه شيئاً معيباً، حاولوا ترتيب فضيحة أخلاقية له مع مومس عرضت نفسها عليه، ولكنهم أخفقوا لأن نادر لم يستجب لها. استطاع نادر اكتشاف أمر الحملة السريّة ضده، وقام بتسريبه لوسائل الإعلام متهماً جنرال موتورز بمضايقته والتحرش به Harassment.

ولحسن حظ نادر، كان لا يزال -وقت تلك المضايقات- شاهداً لدى لجنة السيناتور ريبيكوف في الكونغرس حول موضوع سلامة السيارات. ولذلك اعتبر السيناتور ريبيكوف تلك التهمة -أي مضايقة جنرال موتورز لنادر- جريمة فيدراليّة يعاقب عليها القانون. أمر السيناتور ريبيكوف بعقد جلسة تحقيق في الكونغرس في 22 مارس 1966 بحضور نادر وجيمس روشي كبير الإداريين التنفيذيين في شركة جنرال موتورز. وفي الجلسة، قدمت جنرال موتورز تبريرات واهية لما قامت به، ولكنها اضطرت بعد تحقيق طويل وضغط شديد من أعضاء اللجنة للاعتذار، حيث قال رئيسها: «أريد أن أعتذر، هنا والآن، إلى أعضاء هذه اللجنة وإلى السيد نادر شخصياً، وأود بإخلاص أن تقبلوا هذا الاعتذار.. خاصة السيد نادر». اكتفى الكونغرس بهذا الاعتذار المهين لجنرال موتورز، وتم طي القضية فيدرالياً.

وهكذا هَزم نادر بمفرده أكبر شركة في العالم -في ذلك الوقت- ذات الـ 000‚745 موظف (2). كما استطاع نادر أن يقاضيها بنجاح، وأن يخرج بتسوية -خارج المحكمة- تبلغ 000‚280 دولار، وهو رقم ضخم وقتها واستخدم نادر المبلغ في توسيع جهوده لحماية المستهلك.

واصل نادر مساعيه نحو حث الحكومة الفيدرالية لتشريع قوانين تضمن سلامة السيارات. وفي نهاية عام 1966، تحقق ذلك.. عند ما عقد الكونغرس جلسات استماع بهذا الخصوص، وتم استدعاء نادر للشهادة خبيراً مرة أخرى. وقبل نهاية السنة، أصدر الكونغرس لأول مرة قانونين بخصوص متطلبات سلامة السيارات، ومن ضمنها قانون أحزمة الأمان لأول مرة. كما تم تأسيس مؤسسة فيدرالية تعرف حالياً باسم «الإدارة الوطنية لسلامة مرور الطرق». لقد كان ذلك إنجازاً مذهلاً لرالف نادر. علّقت جريدة واشنطن بوست على هذه الأحداث التاريخية بقولها: «إن جماعة ضغط، مكونةً من شخص واحد يعمل من أجل مصلحة الشعب الأمريكي، استطاعت هزيمة أعظم شركات هذه الأمة»!

بعد نجاحه في معركة سن قوانين سلامة السيارات، اتجه نادر إلى مجالات أخرى لحماية المستهلك. استغل نادر فورة الحماس لدى الشباب الناشط سياسياً المتولدة من مناهضة حرب فيتنام، واستطاع أن يُجنِّد ما يقرب من 200 شاب جامعي من دارسي القانون للعمل في الشأن العام. عُرف هؤلاء الشباب ب «قراصنة نادر»، وعملوا في مجالات عديدة تدور حول فكرة حماية المستهلك مثل: حماية البيئة، الصحة العامة، سلامة السيارات، الإصلاح الضريبي، حرية المعلومات، إصلاح قوانين التأمين، حقوق المَعُوقين، مراقبة جماعات الضغط، متابعة الكونغرس، والطاقة النووية. وأصبح مصطلح «نادريزم» يُستخدم في التعبير عن سخط المستهلكين عن رداءة المنتجات أو الخدمات.

وفي عام 1971، قام نادر بتأسيس جمعية «المواطن العام»، كمنظمة مجتمع مدني غير حكومية وغير ربحية هدفها حماية المستهلك، كمِظلَّةٍ يعمل من خلالها قراصنة نادر الذين تزايد عددهم بصورة كبيرة، وتشعبت مجالات عملهم في مناحٍ شتى. وتضم «المواطن العام» اليوم أكثر من 000‚150 عضو ومئات الباحثين في مختلف مجالات حماية المستهلك. ولا تقبل «المواطن العام» تبرعات من الحكومة ولا الشركات بل تمول نفسها من تبرعات أعضائها.

وبفضل جهود ومثابرة نادر، بصورة مباشرة أو غير مباشرة، صدرت ثمانية تشريعات فيدرالية، كما تأسست ست هيئات رقابيّة حكومية، لحماية المستهلك والبيئة وسلامة العمال.. لعل أهمها على الإطلاق وكالة حماية البيئة EPA. وقد اقتدت بهذه التشريعات والهيئات الرائدة والهامة دول كثيرة في العالم المتقدم والمتخلف على السواء.

وفي عام 1980، استقال نادر من منظمته «المواطن العام» ليركز اهتمامه في مشاريع أخرى هامة كثيرة جاءت في مقدمتها الشركات المتعددة الجنسية.

وإلى نادر يعود الفضل في سلامة ملايين السائقين، حيث نجح في الضغط العنيف على شركات السيارات الأمريكية لتسحب من المستهلكين ملايين السيارات ذات العيوب الخطيرة وإصلاحها.

ولأن هدف نادر الأساس الذي يسعى إليه هو العدالة الاجتماعية الحقيقية، فهو لا يعتقد في وجود أي أمل حقيقي لسعادة الشعب الأمريكي تحت حكم الحزب الديمقراطي -الذي يَعتقد نادر أنه خان مبادئه-، ولا الحزب الجمهوري بكل تأكيد! وفي انتخابات الرئاسة لعام 1996 رشح نفسه عن حزب الخُضْر في معظم الولايات الأمريكية، ولكنه لم يحصل إلا على أقل من 1% من الأصوات.

وفي انتخابات الرئاسة عام 2000، رشح نادر نفسه عن حزب الخُضْر أيضا. ولم يستجب لمناشده الكثير من اليساريين والتقدميين والمستقلين والديمقراطيين الساخطين بقوّة من أجل أن ينسحب من سباق الرئاسة حتى لا يسحب الأصوات من الديمقراطيين ويسهل فوز الجمهوريين، وبالذات التيار اليميني المحافظ الذي يمثله جورج دبليو بوش. رفض نادر كل هذه المناشدات، وأصر على أهمية المشاركة لكي يفهم الحزب الديمقراطي أنه أصبح «مفلساً جداً، وأنه لا يهم إذا كسب أية انتخابات أم لا.. لأنه أصبح -مثل الحزب الجمهوري- لا يراعي سوى مصالح الشركات الكبرى فقط». وأضاف نادر بحزم: «إذا اخترتَ الأسوأ بين شريرين؛ فإنك، في نهاية الأمر، تحصل على شرير!». خسر نادر، كما كان متوقعاً، حاصلاً على 7‚2% من الأصوات فقط. لكن مشاركته كلفت الديمقراطيين كثيراً حيث حرمت آل غور من الرئاسة وأهدتها إلى جورج دبليو بوش. لقد كانت الولاية الحاسمة هي فلوريدا. وكان بوش متقدماً بـ 537 صوتاً فقط بينما حصل نادر في هذه الولاية على 488‚97 صوتاً! والقصد أن معظم بل ربما جميع من صوتوا لنادر يميلون للحزب الديمقراطي في الأساس. لقد كانت صفعة قوية ودرساً بليغاً وجهه نادر إلى الحزب الديمقراطي الذي طالما ادعى أنه يمثل مصالح الفقراء. وقد بلغ عدد المنظمات غير الربحية التي أسسها 48 منظمة تهتم بحماية المستهلك وبكثير من مصالح الشعب الأمريكي. كما ألّف 26 كتاباً.

وهو عَزَب لم يسبق له الزواج، وقال في مقابلة مع جريدة نيويورك تايمز عام 1995 عن سبب عدم زواجه: «كان لا بد أن أختار إما مهنتي أو تأسيس عائلة لأنني لا أستطيع الجمع بينهما. لم أكن أريد أن أكون زوجاً وأباً غائباً.. ذلك أمر فظيع». يسكن نادر في شقة متواضعة في واشنطن، دي سي، ويملك تلفزيوناً واحداً غير ملون (أبيض وأسود)، ولا يملك سيارة! تقول CNN في تقرير عنه: «تقدر ثروته بأربعة ملايين دولار، ولكنه ينفق 50% من دخله على الجمعيات الخيرية ومنظمات المجتمع المدني التي ساهم في تأسيسها بانتظام منذ عام 1967».

إن رالف نادر يعتبر -بحق- الناقد الاجتماعي الأكثر فاعليّة في أمريكا ولذلك وصفته مجلة تايم العريقة بأنه «أعنف زبون أمريكي».

(1) ثورة كوبرنيكية نسبة إلى كوبرنيكوس وهو عالم فلك بولندي (1473– 1543) صاحب نظرية دوران الأرض والكواكب السيارة حول الشمس وحول نفسها. وهذه النظرية أحدثت ثورة علمية هائلة في العصور الوسطى لأنها كانت عكس المفهوم الكنسي لهذا الأمر.

(2) عدد الموظفين في جنرال موتورز انخفض الآن إلى 202,000.

Hamad.aleisa@gmail.com المغرب

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة