مريوم وفطوم هكذا ينادي أهل الحي الفتاتين الصغيرتين وهما تلعبان في طفولتهما، مريوم مسمى لها ابن عمها كما هو العرف الجاري لدى بيئة الفلاحين إنه ابن عمها جسوم اسم الدلع لجاسم كما هو الحالة لمريم وفاطمة.
الفتاة والفتى تعلقا ببعضهما البعض فنشأ الحب من الصغر بقدر عفته وبقدر عمقه وقوته بدأ يكبر وبدأت تكبر وهما يلعبان في النخيل عند السواني وبالقرب من (الثبر) يتقاذفان الطين ويتضاحكان ينظر إليهما والداهما بابتسامة في النخل المشترك قبل القسمة بينه وبين أخيه والد جاسم.
مريوم حاولت تسلق السدرة لقطف اترجه ولكنها زلقت وفزع لها جسوم وهو قلق ومتوتر: عمّي.. عمّي.. مريوم زلقت.. في وييها (وجهها) جرح ويطلع دم عمّي.. عمّي الله يخليك نوديها المستشفى ضحك أبو مريم فالأمر لا يحتمل كل هذا الخوف دَلَكَ الجرح بمشموم (ريحان الأحساء) وثم وضع عليه شيئا من الحمى (الطحالب الخضراء في البرك التي يعتقد القرويون أنها توقف الدم) وهكذا كان يفعل.. ثم التفت إلى جاسم قائلاً وهو يضحك: (قلبك على مريوم لا تخاف مسماه لك مسماه).
جسوم الطفل ذو الثماني سنوات شعر بالراحة لأنه اطمأن على مريوم ولم يدرك بعد معنى مسمّاه ولكنه أحس بأنه سيكون بالقرب من مريوم.
هذه المشاهد كانت في مخيلة الشابة الجميلة مريم وهي قادمة في باص الجامعة الأصفر التقليدي الذي ينقل بنات القرية من الجامعة وإليها.
فاطمة صديقة مريم الخاصة التي تعرفها جيداً حركت شعرها وغمزت مريم في كتفها ومريم في حالة تفكير عميق: أين ذهبتي؟ أين وصلتي؟.. والله إنه معاكِ معاكِ.. فضربتها مريم وهي محتجة عليها بممازحة وهي تردد: ما أدراكِ ما أدركِ، كان الباص يمر عند مدخل القرية خلال عودة موظفي أرامكو حيث كان جاسم يعمل التفتت فاطمة بسرعة إلى صديقتها مريم بعد أن لاحظت سيارة جاسم وقد نزل من باص أرامكو وهمّ بركوب سيارته..
فصاحت فاطمة: مريم هذي سيارة جاسم شوفيه.. شوفيه، التفتت بكل قوتها واندفاعها القلبي إنه فعلاً هو! لم تستطع المقاومة فخرجت زفرة عميقة منها.
التفتت فاطمة هذه المرة بجدية ومراعاة كبيرة لصديقتها الخاصة وقالت لمريم: ألم يتقدم جاسم إلى الآن؟ ثم أشارت لها بخفض الصوت حتى لا يسمع زميلاتها في الباص ثم قالت: أرسل منيرة بنت عمي (شقيقة جاسم) وقالت لي إنه سدد آخر قسط للسيارة.. الحمد لله وهو مشترك في جمعية مع أصدقائه وإذا استلمها سيخطبني من أبي. توقفت مريم عن الحديث للحظات ومرّ على وجهها سحابة من قلق ثم استأنفت حديثها لصديقتها وهي تقول: لكنني خائفة.. خائفة يا فاطمة أحس بأن أبي تغيّر ولا أشعر بعاطفة منه تجاه جاسم ويقول كلاماً غريباً يردد بجانبي: لا أحد مسمّى لأحد من طق الباب وهو كفو جاه الجواب.
واستأنفت مريم وهي تروي شجونها لصديقتها فقالت: هناك أحد التجار يزوره...
قاطعتها فاطمة: صاحب الشبح الأسود (المرسيدس الفخمة) أشارت برأسها: نعم.. دائماً يأتينا وأبي يهتم له كثيراً وأنا قلقة يا فاطمة.
فاطمة تردد: مريم لا تقلقين إن شاء الله جاسم لك وأنتِ لجاسم ولكن أقترح عليكِ أن تكلمي أحمد (شقيق مريم).
وقف الباص أمام منزل مريم الذي يسبق منزل فاطمة أشارت برأسها مرة أخرى بجدوى الفكرة وعدلت عباءتها ثم قامت من كرسي الباص متوجهة إلى المنزل..
عند المساء المتأخر.. عاد أحمد من سهرته كانت مريم مشدودة ومتوترة فأحمد لا يزال في صبوته ليس جدياً في برنامج حياته ولم يستوفِ دراسته الجامعية، كثير السهر والخروج لكنها كانت تشعر دائماً أن فيه خُلقاً شهماً ومودة لأخويه الصغيرين وأخواته فالتفتت وتأكدت من نوم الوالدين ثم نادت: أحمد.. أحمد.. قبل أن يصعد لغرفته في السطح التفت متفاجئاً: مريوم! ماذا لديك؟ فردت: أريد أن أحدثك خمس دقائق فقط.
جلسا في صالة المنزل وأطالت صوت التلفاز خشية بأن يستمع أحد والديها لحديثها وبدأت الكلام: أحمد من هذا راعي الشبح وماهي علاقته بأبي؟ التفت إليها سريعاً: هذا أبو سعد راعي محطة البنزين في الشارع العام.. لماذا تسألين عنه؟ زاد قلق مريم وأجابته: أبي إذا رجع من عنده أو إذا طلع أبو سعد من بيتنا يردد علي (لا أحد مسمى لأحد من طق الباب إن كانه كفو جاه الجواب) وأنا خائفة يا أحمد وقلقة، أدرك أحمد على الفور دواعي القلق فهو يعرف الرجل ويرفضه تماماً بقدر ما يحب أخته وابن عمه ويرجو لهما الاقتران الذي طالما حلما به طويلاً.
ربّت على كتف أخته وقال: لا عليكِ مريوم والله أنتِ لجاسم وجاسم لكِ، ارتاحت مريم ودخلت ونامت هذه المرة عميقاً دون قلق بعدما اطمأنت لمساندة شقيقها أحمد، وفي صباح اليوم التالي هتف بها والدها بأنه يريد أن يحدثها في موضوع مهم بعد رجوعها.
انصرفت مريم لباص الجامعة بجسد يكاد ينهار وفؤاد من هواء، أحست بأن الأمر الذي سيحدثها به أبوها هو ما يقلقها طوال هذه الفترة، أسرت لفاطمة الصديقة العزيزة والتي شاركتها القلق، ولكن فتحت لديها أبواب الأمل، وأن الأمر لعله خلاف ما تعتقد، لم تستطع استيعاب شيء من محاضرات الكلية في هذا اليوم، وعادت إلى المنزل وكانت خطواتها ثقيلة وهي تعبر من ضفة الشارع حتى رصيف المنزل.
دخلت الصالة ووجدت أباها في انتظارها، ثم التفت إليها وهو يبتسم: حياك الله ابنتي الغالية مريم.. تعالي (يابوك)، وما إن جلست حاولت والدتها تأجيل الموضوع، غير أن أباها أصر ثم بدأ يسترسل بالحديث: يا بنتي (بو سعد) رجل طيب وعنده خير (مقتدر).. أحست مريم بتسارع نبضات قلبها كأنه يريد الخروج من أضلاعها، وشعرت بالقنبلة التي سيلقيها أبوها بين يديها كي ينسف الحلم الجميل الذي عاشت منذ طفولتها معه، وفعلاً استأنف بقوله: (وهو يكلمني عنك من مدة، ويريدك على سنة الله ورسوله ولا يضره أنه متزوج فهو مقتدر وسيضع لك بيتاً..).
- لا لا يا أبي صاحت بكل ما بقي لها من قوة: وجاسم جاسم (يا بوي)! رد عليها بعنف: جاسم ليس كفئاً لكِ ورجال ضعيف وما له ذكر عند الوجهاء! ثم صرخ بقوة: (البنت ما لها إلا أمر أبوها..) تلك اللحظة فقدت مريم القدرة على مواصلة الحديث والاستماع وانهارت مغشياً عليها..
بعد ساعة من الزمن استفاقت مريم على بكاء أمها بين الأمل بأن ما سمعته كان كابوساً، وبين الحقيقة المؤلمة التي عادت إلى وعيها منذ أن استفاقت من سقوطها.
الأم بتلهف.. تناديها مريم! مريم! يمه يمه بسم الله عليك بسم الله عليك قومي يمه هذا أميهه (جرعة من الماء) سندتها ثم شربت تلك الجرعة وحاولت القيام فإذا بأبيها يدخل من الباب الرئيسي وهو يقول: سنأخذها إلى الدكتور يا الله، فأشارت بحزم لا أريد لا أريد ما فيني شي ما فيني شي.
تمددت مريم على سريرها في دارها وبدأت رحلة المعاناة في التفكير.
يوم وثان وثالث تكاد مريم تصوم عن الطعام وامتنعت عن الذهاب إلى الجامعة أوصلت الخبر إلى أحمد وطلبت منه أن يبلّغ جاسم، صُعق جاسم ولكنه أرسل رسالة طمأنينة قوية بأنه لن يتخلى عنها وأنه ثابت في موقفه تماماً كما هي حبه وعشقه القديم.
محاولات أحمد لإقناع والده تكسرت أمام إصرار الوالد وهو يردد على أم أحمد وولدها: أنا أدرى بمصلحتها ستعرف فيما بعد هذا الأمر الذي اخترته لها قولي لها.. وهو يلتفت إلى أم أحمد أنا (بوجّب) الرجال (سأوافقه وأعطيه ما يريد)، والليلة سأعطيه الخبر (تريح روحها بتاخذه.. بتاخذه)، أرادت أم أحمد ألا تنقل الخبر خشية على مريم، لكن مريم سمعت وبلغت أمها عند خروج أبيها لصلاة الفجر، قالت مريم: أبو سعد بياخذني يا بوي لكن بياخذني جنازة (أي ميتة كناية عن الحال التي تعاني منها وعدم تقبّلها لهذا الزواج) الرسالة كانت بالغة ومؤثرة، وحين انصرف أبو مريم من صلاة الفجر وهمّ بالخروج قصده الإمام على غير عادة، فتقدم نحوه على غير عادة، ثم سأله عن حال أخيه المتخاصم معه (أبو جاسم) وأكد على الصلح، ثم سأله عن ابن أخيه وأثنى عليه، ثم ختم حديثه بقوله (المؤمنون على عهودهم) شعر الأب المعاند بالرسالة تضرب في ضميره (كان جاسم ذكر للإمام معاناته فحاول الإمام أن يوصل الرسالة بصورة غير مباشرة)..
بات أبو مريم في تردّد كبير، وأراد أن يخرج من هذا الموقف الذي كان يضمر فيه هدفه المادي السيئ الذي كان يخفيه وهو يردد: (ليس هدفي المال أنا فقط أريد مصلحتها) حينما يناقشه ابنه أحمد.
............................................ يتبع