قبل سنوات قليلة 2007 أصدرت دار الشروق في مصر كتاباً بعنوان (محمد عبد الوهاب.. رحلتي.. الأوراق الخاصة جداً)، من إعداد وتقديم الشاعر فاروق جويدة، الذي يقول في تقديمه للكتاب:
(بعد رحيل عبد الوهاب بفترة قليلة فاجأتني زوجة الموسيقار الكبير بمفاجأة غريبة، لقد أخبرتني أن عبد الوهاب طلب منها قبل رحيله أن تعطيني أوراقه الخاصة، واكتشفتُ وأنا أقلب هذه الأوراق أن هناك عبد الوهاب آخر غير الذي نعرفه..)!
طبعاً الموسيقار محمد عبد الوهاب 1902 – 1991 كان يتربع على عرش القمة في الموسيقى والتلحين والغناء أيضاً، وقد ألَّف عددٌ من الشعراء والأدباء كتباً عنه في حياته وبعد وفاته، ولعل من أهم الكتب التي تتحدث عن عبد الوهاب ذلك الكتاب الصغير الذي صدر موقعاً باسم الشاعر الراحل كامل الشناوي 1908 – 1965 بعنوان (عرفتُ عبد الوهاب)، وقد كان في أساسه سلسلة مقالات صحفية نشرها الشاعر حين كان الموسيقار في ذروة عطائه الإبداعي، ثم بعد وفاة الشاعر جمعها أخوه مأمون الشناوي وأصدرها في كتاب صغير وجميل صدر عام 1988 عن المكتب المصري الحديث..
ما يهمني الآن أن الكتاب الذي أعدّه وقدّمه فاروق جويدة فيه أشياء لا يقبلها المنطق، ولعل من أطرف ما جاء فيه واستوقفني كثيراً، هذا المقتطف الذي جاء في الكتاب على لسان الموسيقار محمد عبد الوهاب:
(سألتُ مرةً أمير الشعراء أحمد شوقي: لماذا أنتَ أعظم شاعر عرفته العربية؟ فأجاب: أولاً هي الموهبة. فقلتُ: وثانياً؟ فقال: لأنني حصلتُ على شهادة ليسانس في الحقوق. قلتُ: وما علاقة الشعر بالحقوق؟ قال: الشعر موهبة ومنطق، والقانون منطق. ولم أفهم ما قاله شوقي حتى الآن)!
من المحتمل أن يكون هذا الحوار قد دار فعلاً كما هو بين عبد الوهاب وشوقي، بخاصة أن شوقي كان يعامل عبد الوهاب وكأنه طفله المدلل، ويريد أن يدهشه دائماً ليحرّض فيه ملكة التفكير والاستنتاج، وعليه فمن غير المنطقيّ أن يؤخذ كلامه على أنه إجابات وافية عن أسئلة حقيقية، فمثل شوقي يعرف جيداً أن أعظم الشعراء كانوا أكثر الخارجين على القوانين ضاربين بالمنطق عرض الحائط من أجل تكوين إبداع خارق..!
من الممكن كذلك أن نأخذ كلام شوقي على أنه تحليل أو فلسفة غير مشروعة أبداً، ودائماً ما يقع فيها الشعراء بخاصة والمبدعون بعامة، حين توجه إليهم أسئلة من هذا النوع، فيحاول المبدع اختلاق إجابة، ثم إذا كررت عليه السؤال في موضع آخر وبحالة مزاجية أخرى ستستمع منه إلى إجابة مختلفة كلياً عن الإجابة السابقة، مع أن السؤال واحد!
وهذا ما يجعلني أقرر وأكرر أن كل تفسير لكينونة الإبداع هو تفسير فاشل، إذ لا يمكن لأحد أن يفسر (المعجزة) بأكثر من وصفها بالمعجزة، فإن كانت أعجزت مبدعها أن يأتي بمثلها وقتما يشاء – كما يحدث عادة مع الأعمال الإبداعية الاستثنائية، التي صنعت أمجاد مبدعيها - فمن الأولى أن تعجزه عن تفسير كينونتها وكيفية الإتيان بها..
لو كان أحمد شوقي جاداً في قوله ومؤمناً برأيه هذا لما تردد في توثيقه بيده، ولو كان عبد الوهاب مخلصاً في نقله عن شوقي وغيره ممن جاء على ذكرهم في تلك الأوراق لما تردد في إعلانها ولو شفاهية في الحوارات الكثيرة التي كانت تجرى معه، لكن أن يكتبها على وريقات ثم يخفيها في أدراج مكتبه ويوصي زوجته أن تسلمها بعد وفاته إلى من ينشرها في كتاب فتلك هي (المتاجرة بوريقات المبدعين) بعد رحيلهم، ولا أرى شيئاً غيرها..!
وقد راجت تلك المتاجرة منذ أن عرف الناسُ الإبداع، وستظل رائجة ما لم يحسمها المبدع بوصية موثقة يمنع فيها كل من تسوّل له علاقته بمبدع راحل أن يخرج أوراقاً من أدراج مكتبه بعد وفاته، أو يتوهم أنه يخرجها، ليقدمها للناس على أنها عمل جديد من أعمال المبدع الراحل!
وقد حدث ذلك ويحدث مراراً، بخاصة في مصر، وكمثال: في العام نفسه (2007) أصدر الكاتب إبراهيم عبد العزيز ديواناً (شعرياً) للأديب الروائي توفيق الحكيم (1898 – 1987) ولم يكن أحدٌ يعرف عن توفيق الحكيم أنه (شاعر) قبل صدور ذلك الديوان المعنون (ديوان توفيق الحكيم)!
كما أن ذلك يحدث ليس في مصر وحدها، ولا في العالم العربي وحده، بل في العالم كله.. ولعل أقرب مثال من عالمنا العربي ما أصدرته دار رياض نجيب الريس في لبنان بعد وفاة الشاعر الفلسطيني الكبير محمود درويش تحت عنوان (لا أريد لهذي القصيدة أن تنتهي)، وما تبع ذلك من تشويه لمنجزه الشعري وما نجم عن ذلك من اعتراضات محبي درويش من العارفين بشعره وبأن أسباب عدم نشره لتلك الوريقات تكمن في عدم قناعته بصلاحيتها للنشر فنياً، فمن أعطى الحقَّ لغير المبدع أن يقرر نشر ما لم ينشره؟
نعم، هي (المتاجرة) التي تمسّ تراث المبدعين، وتضيف إليه ما لم يحبذ صاحبه إضافته – وهو الجدير بذلك وحده - وستستمرّ طالما أن (الوصايا) يراها بعضهم شؤماً أو استدراراً لمشاعر المقربين، فيتجنبون كتابتها، بينما هي ضرورة لمن يخاف على منجزه من تلك الإضافات التي لم يرتض بها المبدع في حياته ليأتي من بعد وفاته من يتاجر بها..
ومع كل ذلك نجد أن المبدعين الذين بادروا بكتابة (الوصية) قبل الوفاة، كانوا يهملون هذا الجانب المختبئ في وريقات تساقطت سهواً إلى أدراج مكاتبهم؛ فذلك هو الشاعر المصري حسين عفيف (1902 – 1979) الذي يراه بعض النقاد واحداً من أوائل الرواد لقصيدة النثر.. فحين كتب وصيته قبل وفاته بعام واحد (نشر نصّ الوصية نبيل فرج في مجلة إبداع عدد يوليو 1991)، لم يذكر فيها أيّ شيء عن تراثه الأدبي، بل اكتفى بشخصه في الذاكرة وطقوس جنازته كما جاء في النص: (لا يُنشر لي نعيٌ في الجرائد، ولا يُعمل لي مأتم ولا صوان، ولا عزاء داخل المنزل ولا فقهاء، ولا ذكرى سنوية، ولا صوان لمشيعي الجنازة). ولذلك سنظل نجد بين فترة وأخرى من لا يزال يخرج مقطوعة شعرية ينسبها إليه، إلاّ أنّ أحداً لم يخالف (وصيته) بتكريمه في (ذكرى سنوية) لوفاته، بل إن التكريم كان من نصيبه في (مئوية ميلاده) قبل عشر سنين!
ffnff69@hotmail.com
الرياض