Culture Magazine Thursday  08/11/2012 G Issue 384
فضاءات
الخميس 23 ,ذو الحجة 1433   العدد  384
 
ممكن الاستبداد
ضرورة الافتراض وعجز الواقع
ياسر حجازي

 

(أ)

«يحكى أنّ رجلاً تركَ لأبنائه 17 جَمَلاً فأوصى للأكبر النصف وللأوسط الثلث وللأصغر التسع، مشترطاً عدم اشتراك أيّاً منهم مع الآخر في أيّ جمل. وهي أنصبةٌ لا تنفّذ مع عدد الجِمال-التركة». ويكون في حلّ الأحجية: أنْ (نفترض ضرورة) وجود جَمَلٍ إضافيّ لجِمَال التركة في (الواقع) فيغدو عديدها 18 جملاً، ممّا (يُمكّن) من توزيع الأنصبة لتكون الحصص: (تسعة، ستّة، جملين). أمّا المفارقة المختلقة (تحايلاً غير رياضي): أنّ نسب الأنصبة (بعد الافتراض) تساوي التركة، ويبقى الجمل الافتراضي (الضرورة) الذي أنقذ المعادلة غير موجود في الواقع ولا بقي بعد تقسيم النسب، إلاّ على سبيل الافتراض والحلّ، لكنّ الأحجيّة لا تستقيم بدونه. والخدعة كامنة في الإيحاء أنّ الأحجيّة صادقة في كونها مسألة رياضيّة، لكنّها تحريف رياضي لأنّ نسب الأنصبة غير كاملة مع التركة، وذلك ناجم عن نقصان النسب عن المئة، لغاية اختلاق مأزق رياضي يعتمد في حلّه على الافتراض والممكن والضرورة.

(ب)

حينما يتداول المرء هذه الأحجية معتمداً على الواقع فإنّه قد يتورّط في توصيف تنفيذ الأنصبة بالاستحالة، تماشياً بما هو قائم؛ والمسألة لا تعدو كونها نقصاً في الخبرة والمعرفة وتحريفاً رياضيّاً مخادعاً. وسبب هذا التصدير- الأحجيّة هي مناقشة ضرورة الافتراض حينما يكون هناك نقص في الصورة وثغرة في الواقع.

ولكنّ أولاً: (ما هو الافتراض؟): هو ما نختلقه سدّا لثغرة ما، ليس لدينا لها شاهد إثبات أو نفي، ويكون اختلاقنا لهذا الافتراض وسيلة للوصول إلى غاية وليس غاية بحدّ ذاته؛ هكذا يقدّم الفكر الديني والعلمي افتراضاتهم فيما يتعلّق بالحلقة المفقودة: (كيف تأنسن البشر؟) لغياب الشاهد ونقص المعرفة. ولا يكون الافتراض ضروريّاً إلا جسراً لغاية تتجاوزه ثمّ يمكن الاستغناء عنه، ولذلك يكون الافتراض (ونحن نعلم أنّه غير مثبت أو غير واقع) إلاّ أنّنا نستخدمه لأن المعادلة لا تنتج بدونه، وهو من بعد إنتاج المعادلة لا قيمة له على الاستقلال، وهذا ما نراه في الجمل الثامن عشر، الذي فقد وظيفته وقيمته بعد افتراضه في إسناد المعادلة الناقصة-المزوّرة، ولعلّه هو المرشد إذّاك على نقص المعرفة والتزوير الذي غلّف نسب الأحجيّة. فالعلاقة بين الممكن والواقع لا تنتج دون الافتراض وتحويله كضرورة لأجل إيجاد الممكن. حيث إنّ قيمة الافتراض في صناعة الحقائق ضرورة للوصول إلى ما نظنّه حقيقة.

وهذا ما يرشد إلى قيمة الافتراض في الإسناد وسدّ العجز الناقص في الظواهر أو الوقائع المراد تحليلها أو رصدها؛ لكنّنا نلاحظ أن الافتراض قد يحلّ محلّ الواقع والظاهرة ممّا يُعلي من شأن الغيبي على الماديّ ويبعد المرء عن سبب لجوئه للافتراض.

(ج)

وضع الفكر الدينيّ البيض كلّه في سلّة واحدة، وقدّم وعوده مؤجّلة إلى عالم آخر لا تتشابه فيه ظروف الكينونة والسيرورة والصيرورة مع هذا العالم، وبقيت مسألة صلاح البيض من فساده محصورة بالفرديّة، حيث إنّ الإثبات والنفي في المسائل المؤجّلة لا تتحمّل الحتميّة والقطعيّة؛ فإنّ عدم بلوغ أجل الاستحقاق يؤجّل الحكم النهائيّ، وأيّ نتيجة تفترض (الآن) تبقى عرضة للطعن بها ولا يمكن الاحتكام إليها أو البناء عليها. أمّا الفكر الثقافي فإنّه قد وضع البيض كلّه في سلّة الممكن المتوقّع تحقيقه، وقدّم وعوده في استحقاقات واقعيّة أرضيّة، فأيّاً تعدّدت وسائل نقل الواقع أو ممثّلاته يظلّ القطع بمنجزات تلك الوعود ومدى تحقّقها محتملاً وممكناً، بما آلت إليه على أرض الواقع.

وإشكال الفكر الثقافي أنّ نطاقات حقله محصورة في الواقع (الأرض) وإذا ناقشَ مسائل ماورائيّة فإنّه يستغلّها في سبيل تفكيره الواقعي، لذلك فالابتعاد عن الواقع هو ابتعاد عن الوظيفة التي تميّز الفكر الثقافي؛ كأن يذهب في نقاش الافتراض وينسى الواقعة والظاهرة إذاك يسقط في مأزق الفكر الديني. وهو ما عثّر انتشار الفكر الثقافي في مجتمعات يتحكّم فيها الممكن الديني ولا تتحمّل الشكّ في افتراضاته، وفي حال وقوع الشكّ فإنّما يقع على الفرد وليس على الجماعة؛ لأنّ الفرديّة تتحمّل الشك واليقين بينما الجماعيّة لا تتحمّل إلاّ اليقين، فالشكّ ليس من طبيعة الجماعة لأن حبل اليقينيّات أساس تكوينها وبقائها.

(د)

حينما طرحتُ في مقال سابق: «المثلث الطوباويّ، بضاعة الثقافة الفقيرة» تشكيكاً في المثلث الأخلاقي وتفكيكاً لقيمه: (الحرية، المساواة، العدالة) فإنّ الغاية ليست انتصاراً للاستبداديّة والطغيانيّة إنّما حجّة على ضرورة الانتقال من الثقافة إلى السياثقافة، وحجّة على استحالة فصل التشريع السياسيّ عن قيم الفكر الثقافي وإلاّ تورّط في التجريد؛ إذّاك فإنّه مضطّرٌ للتعامل مع (الافتراضي والممكن والواقعي والنسبي) اتّقاءً من السقوط في متاهات التجريد؛ لأنّ كلا التأويل الثقافي والتشريع السياس ي هما (افتراض) ناشئٌ بسبب ثغرة في الواقع، فكيف ينشغل المرء في الافتراض ويحوّله إلى واقع بديل لا يمكن الاعتراض عليه.

ولعلّ طغيان الاستبداد كان سبّاقاً لتفكيك المثلث الأخلاقي وإدراك علّته الافتراضيّة في التطبيق، فكان المرجع في تكوين (ممكن الاستبداد) في حدود ضيّقة، لأنّه (يفترض) أن يكون بديلاً عن عجز الواقع في معالجة الواقع. فالظنّ بأنّ الاستبداد سمة الأنظمة الشموليّة بمفردها، هو ظنّ مشكوك به ولا تدعمه الوقائع على الأرض: لأنّك لا تستطيع أن ترفع صفة الاستبداد عن النسبيّة الديمقراطيّة والتشريعيّة حينما تفرض رئاسة البلاد والتشريعات على نسبة المناصفة (الأكثرية البسيطة): ألا يحمل صفة الاستبداد إلزام نصف الناخبين بتشريع يرتضيه النصف الآخر؟ فالمسألة بين الشموليّة والديمقراطيّة هي مسألة نِسَبِ الاستبداد بالرأي والحكم والتشريع، والتي تجعل الاستبداد مقبولاً ومحمولاً أو تجعله طاغوتاً، فالمسألة ليست في وجود الاستبداد من عدمه، فلا يكفي لدينا تداول السلطة لرفع الاستبداد عن سياسة دولة دون أخرى لا تعتمد تداول السلطة؛ وأزعم أنّ الفقيه الثقافيّ العربيّ يتحمّل مسؤوليّة تنزيه الأنظمة الديمقراطيّة والليبراليّة عن الاستبداد وإلحاقه كخاصيّة مرتبطة بالأنظمة الشموليّة الأحاديّة فقط؛ وهو (تبشير مجانيّ) يتماهى به الفقيه الثقافي العربي مع الفكروثقافي للدول الأقوى دوليّاً، إذّاك يتبنّى مفاهيمها واستبداداتها الفكريّة: (ملكيّة الحقيقة، أحقيّة الانتفاع بالعالم، بداية التاريخ ونهايته..وغيرها) ويقوم بتسويقها على أنّها كاملة وصالحة لكلّ ثقافة وأمّة، دون اخضاعها لقانون اختبارات الصلاحيّة.

إنّ أيّ مفهومٍ في أيّ فكر ثقافيّ يستحيل ممكنه في الواقع سوف يفقد القيمة التي يفترض أن يحملها، والتي بحملانها تقع الحجّة في طرحها؛ وفقدان قيمة المفهوم ليس معتمدة على علّة في مرجع نشأتها أو تأثّراً بقيمة حاملها، بل لبداهة: أنّ لا قيمة حاضرة (الآن) فيما لا يمكن الانتفاع به وتحقيقه (الآن)، والزمنيّة في مسائل النفعيّة هي اشتراط أساس، لأنّ الأفكار كالأشياء تتعرّض للإهمال والإقبال، وتزداد قيمتها على مدى الانتفاع بها.

Yaser.hejazi@gmail.com جدّة

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة