سمعت في مقابلة إذاعية حواراً بشأن أحد كتب المفكِّر العراقي علي الوردي، وإنكاره لصحّة مقولة: «من جدّ وجد» الشائعة في كتب القراءة التعليمية العربية منذ مراحلها الأولى. وقد أرجعت ضيفة الحوار ذلك الحكم من الكاتب إلى التناقض الذي يوجد في بعض مواضع الكتاب.
ولست هنا بصدد تبرئة كتاب علي الوردي من تناقض أو موضع نقد، لكني وددت أن أكون في اتصال تفاعلي مع السيدة التي كانت تستعرض الكتاب (ولم يذكر المذيع في الجزء الذي استمعت إليه فيها سوى اسمها الأول)، لأتساءل – كما صنع المذيع على عجل – عن إمكان صحة ما يدّعيه الكاتب من عدم صحة المقولة في جميع الأحوال. فكونها تنطبق على حالات دون أخرى؛ يجعل مسألة توافق الصدف هو الذي جعل الجاد يجد نتيجة جهده. لكن إذا كان العكس غير صحيح، فإنّ جملة الشرط تبقى غير مستوفية مصداقيتها، وتصبح بالتالي واحدة من الإمكانات المحتملة. ولا تكون في هذه الحال صالحة لاستخدام هذا الأسلوب القطعي، الذي يعني تحقق الجواب في حالة تحقق الشرط، وانتفاءه في حالة انتفائه.
أنا لا أدعو هنا إلى عدم الجدِّية في العمل أو الدراسة أو التجارة، أو حتى في البحث عن الشريك المناسب في الزواج، أو المكان المناسب للإجازة، وغيرها من مجالات البحث الجاد والعمل الدؤوب؛ لكني أحفر في الثقافة، كما عمل العالم الكبير علي الوردي، من أجل تقديم الوجوه الأخرى للمسلّمات، أو ما يراد أن تكون منها، عارية وبسيطة، ومرفق بها الأمثلة والتوضيحات.
فإذا كانت نتيجة الجد محصورة في المال والموقع المناسب، فإنّ كثيراً من الأثرياء هبطت عليهم الثروة من دون جد يذكر؛ كما أنّ كثيراً ممن يتبوأون مواقع عمل أو جاه حصلوا عليها بسبب علاقاتهم مع أصحاب القرار، أو نتيجة صدفة، وليس عن اجتهاد في طلب الموقع، وكدّ قبل الحصول عليه. هذا في جانب النتيجة، أما في جانب المقدمة، فإنّ كثيراً ممن جدّوا وكدحوا لم يحصلوا على مقابل ذلك العمل الدؤوب، بل إنّ بعضهم وصل إلى فشل ذريع، لأنّ جهوده الكبيرة لم تقدّر أبداً، أو كانت محل شك؛ حيث يتدخل هوى المقومين في تصنيف جهود الناس، ومعاملتهم تبعاً لذلك التصنيف.
وهذا لا يعني أن لا أحد ممن بذلوا جهوداً مضنية قد وصل إلى نتيجة مرضية، لكن القضية في كون كل من يبذل تلك الجهود، يجد مكافأة مناسبة لجهوده. وفي إطار تقويم هذه المقولة، هل الحكم بكون النتيجة مرضية أو غير مرضية شأن موضوعي، أم إن الناس يتفاوتون في هذا الحكم؟ فما أراه مرضياً، قد يراه سواي غير مرضٍ، والعكس صحيح. وفي ذلك – فيما أظن – تدور بعض تحفُّظات المفكر علي الوردي، التي أسمتها ضيفة البرنامج «تناقضات».
وفيما يخص الشق الآخر من المقولة: «ومن زرع حصد»، واضح أنها عامة تنبئ عن كون الحصاد من نوع المزروع. لكنها ربما تكون في الزرع الحسِّي صحيحة؛ فالمزارع لا ينسى حصاد زرعه بعد أن يبذره ويسقيه ويرعاه. والنبات المزروع لا بد أنه سينمو ويصل إلى مرحلة الحصاد، ما لم تأت عليه آفة أو عائق يحول دون اكتمال نموه وجاهزيته للحصاد. لكن الأمر عند نقله إلى المجاز كما توحي المقولة، التي تعبّر – كما درسناها في صغرنا – عن حالة الإنسان في معاشه وحياته بشكل عام؛ لا يكون مطرداً، وقابلاً للتطبيق في كل حال، مثلما ذكرنا عن شق الجد ونتائجه. والزارع المعنوي له وجهة واحدة يركّز عليها هي مصلحته، فهل هو فاسد؟
الأحساء
الرياض