Culture Magazine Thursday  08/11/2012 G Issue 384
فضاءات
الخميس 23 ,ذو الحجة 1433   العدد  384
 
وتم العناق
الحداثة ليست بعيدة
حسن علي البطران

 

وقفة بعد عرفة:

الحداثة ليست بعيدة.. الحج والدعاء وسيلة تواصل تُعمِّق ثقافتنا فاجأني بسؤاله: ما هي الحداثة..؟ امتصصتُ كمية كبيرة من الهواء بعد أن أفرغتها قلت له: الحداثة لفظة تُمثِّل مصطلحاً بداية ظهوره في أوروبا في القرن الـ 19 الميلادي تقريباً، على يد الشاعر الفرنسي بودلير صاحب ديوان (أزهار الشر) وهي نتيجة حتمية لإفرازات فكرية وإيدولوجية، وبعده جاء رامبو، واكتملت الحداثة في شكلها النهائي على يد اليهودي الأمريكي عزرا باوند، واللندني توماس اليوت، ومن العرب كان لها أنصار منهم أدونيس وزوجته والقذامي والسريحي ومحمد العلي وآخرون كثيرون..

يتضاءل المثقف أحياناً في إعطاء تعريف دقيق لبعض المفاهيم أو المصطلحات بسبب تنوع الاتجاه وتشاطر الكثير في تقبله أو عدمه، وبالتالي لا يمكن إلا أن يتقاطع مع حزمة من الأفكار والاتجاهات حتى يصل إلى مفهوم، يمكن أن يدرك من خلاله تعريفاً معيناً، وليس شرطاً هذا التعريف يُجانب الصواب أو يتفق معه، ما دام الاختلاف في الأساس قائماً بين كبار النقاد والمفكرين، وليس للحداثة تعريف مستقر وثابت، وإن كانت تعني (عكس القديم) والخروج عن التقليدية وتطويرها وانتقالها إلى مرحلة أخرى، وإن كان هذا المصطلح يظهر كثيراً في مجالات الإبداع والنقد الأدبي، وتشمل الحداثة أيضاً كل مجالات الحياة المادية والفكرية..

حقيقة لم أكن أتوقع أن أملك كل هذا الإلمام عن الحداثة، ولكن ربما الحوار والنقاش يفتح لك آفاق الذاكرة ويعطيك دافعاً للحديث، وذلك ليس كوني غير متابع أو غير مهتم، ولكن تعدد المفاهيم أحياناً تخرجك من النمطية والأطرنة إلى أفق أوسع، وكونها - أي الحداثة - غير مستقرة المفهوم تحاول أن تتطلع لها أكثر، حيث هنالك من يرى أن الحداثة اتجاه فكري يُوصف بالخطير على العقيدة، وأنه يتنافى مع الإسلام ومبادئه، لأنها تتمرد على الدين، وأن هنالك من يراها مذهباً أدبياً ونظرية فكرية عامة تتمرد على السياسة والاقتصاد والاجتماع وغير ذلك، ولا تتعارض مع الدين.

والحداثة كما أميل إليها أنا بأنها؛ عكس القديم والتجديد فيه إلى الأفضل، وإن كانت من الجانب الفكري تحتاج إلى إدراك أكثر وأوسع من وجهة نظري، وأن لا نُحملها أكثر من ذلك، عموماً الحداثة اتجاه فكري عميق الرؤية..

صديقي المشاغب فاجأني بسؤالٍ آخر وبه فَتَحَ حواراً جديداً، وكان يتمحور بفلسفة التقرب إلى الله جل وعلا بالدعاء..

يقول هو: إن الدعاء وسيلة تقرب إلى الله تعالى، لكن ليس بالضرورة إظهار هذا الاستشعار بأفعال؛ كرفع الصوت والتظاهر بالبكاء والفزع وغير ذلك، إنما يكون العبد منفرداً حتى تكون هنالك قوة خفية يستشعر الروحانية من خلالها تربطه بالله..

قلت له: جميل جداً طرحك، فالتقرب إلى الله هو استشعار قد يتمثل في صور متعدد من السلوك، تصدر من العبد تجاه ربه، تهدف إلى تحقيق العبودية له وحده تعالى، تتلون بالروحانية والغاية التي تتمثل في عبادته وحده..

شريطة أن لا يكون هذا السلوك خارجاً عن المألوف وتجاوزاً للخطوط التي يجب البعد عن تجاوزها..

وأعتقد ما تحدث عنه لا يخل بالعبادة والدعاء بشيء، بل ربما يزيد من تأثيرهما وإن كان هنالك من لا يقوم بذلك فليس عليه من حرج، فالغاية هي الارتباط بالله تعالى، وهذه الدردشة وهذا الحوار كان قبل يوم عرفة بثلاث ليالٍ، حيث كنا نجلس متقابلين في أحد المطاعم الأحسائية الساعة الواحدة والنصف بعد منتصف الليل.

وكوننا نتحدث عن الدعاء فيوم عرفة هو يوم الدعاء والتضرع إلى الله - سبحانه وتعالى -، ف(عرفة) هو الحج؛ يوم عرفة..

حقاً عرفة هو الحج؛ يقول الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم: (الحج عرفة).

ويوم عرفة هو اليوم التاسع من ذي الحجة، فيه يقف الحجاج على صعيد عرفة يتضرعون إلى الله بالدعاء، وهو يوم عظيم الشأن، فيه دعا الله جل جلاله عباده إلى تحميده وتمجيده، ووعدهم بإطلاق عام لجوده وإنجاز وعده، ووعده فيه غفران من الذنوب، وستر للعيوب، وتفريج الكروب، وقضاء الحاجات.. وأن أفضل الأعمال فيه هي الدعاء..

فيه يكون العبد ذليلاً وحقيراً أمام الله تعالى، ويتجلى كل هذا بصدق وفعالية خاصة للحجاج، وهم على صعيد عرفة، ولمن هم في غير الحج أيضاً، وقد تظهر آثار هذا اليوم على العبد إن أحسن وصدق وأخلص النية في دعائه..

وفي هذا اليوم العديد من الأدعية المأثورة منها: (اللَّهُمَّ اجْعَلْ غِنَايَ فِي نَفْسِي، وَالْيَقِينَ فِي قَلْبِي، وَالْإِخْلاصَ فِي عَمَلِي، وَالنُّورَ فِي بَصَرِي، وَالْبَصِيرَةَ فِي دِينِي، وَمَتِّعْنِي بِجَوَارِحِي، وَاجْعَلْ سَمْعِي وَبَصَرِي الْوَارِثَيْنِ مِنِّي، وَانْصُرْنِي عَلَى مَنْ ظَلَمَنِي، وَارْزُقْنِي مَآرِبِي وَثَأْرِي، وَأَقِرَّ بِذَلِكَ عَيْنِي..

اللَّهُمَّ اكْشِفْ كُرْبَتِي، وَاسْتُرْ عَوْرَتِي، وَاغْفِرْ لِي خَطِيئَتِي، وَاخْسَأْ شَيْطَانِي، وَفُكَّ رِهَانِي، وَاجْعَلْ لِي يَا إِلَهِي الدَّرَجَةَ الْعُلْيَا فِي الْآخِرَةِ وَالْأُولَى..

اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ كَمَا خَلَقْتَنِي فَجَعَلْتَنِي سَمِيعاً بَصِيراً، وَلَكَ الْحَمْدُ كَمَا خَلَقْتَنِي فَجَعَلْتَنِي حَيّاً سَوِيّاً، رَحْمَةً بِي وَكُنْتَ عَنْ خَلْقِي غَنِيّاً، رَبِّ بِمَا بَرَأْتَنِي فَعَدَّلْتَ فِطْرَتِي، رَبِّ بِمَا أَنْشَأْتَنِي فَأَحْسَنْتَ صُورَتِي، يَا رَبِّ بِمَا أَحْسَنْتَ بِي وَفِي نَفْسِي عَافَيْتَنِي، رَبِّ بِمَا كَلَأْتَنِي وَوَفَّقْتَنِي، رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَهَدَيْتَنِي، رَبِّ بِمَا آوَيْتَنِي وَمِنْ كُلِّ خَيْرٍ آتَيْتَنِي وَأَعْطَيْتَنِي، رَبِّ بِمَا أَطْعَمْتَنِي وَسَقَيْتَنِي، رَبِّ بِمَا أَغْنَيْتَنِي وَأَقْنَيْتَنِي، رَبِّ بِمَا أَعَنْتَنِي وَأَعْزَزْتَنِي، رَبِّ بِمَا أَلْبَسْتَنِي مِنْ ذِكْرِكَ الصَّافِي، وَيَسَّرْتَ لِي مِنْ صُنْعِكَ الْكَافِي، صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ، وَأَعِنِّي عَلَى بَوَائِقِ الدَّهْرِ، وَصُرُوفِ الْأَيَّامِ وَاللَّيَالِي، وَنَجِّنِي مِنْ أَهْوَالِ الدُّنْيَا وَكُرُبَاتِ الْآخِرَةِ، وَاكْفِنِي شَرَّ مَا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ فِي الْأَرْضِ).

وغيره العشرات، بل المئات من الأدعية التي تُقال في مثل هذا اليوم.. نعم الدعاء هو سلاح وقوة دامغة للمؤمن ووسيلة للحصانة له..

وهنيئاً لحجاج هذا العام، الذي توفرت فيه كل مقومات التسهيل والراحة وفق ما قدمته وقامت به حكومة خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز، والذي يعمل حالياً على أكبر توسعة شهدها الحرمان المكي والمدني عبر التاريخ.! والحديث عن الحج وعن عرفة هو حديث الشارع، أقصد حديث الناس عامة، بما فيهم المثقف والنخبوي، كله يتمحور في قضايا الساعة، وما هو جديد، وما هو (طالع) على الساحة مثل (قفزة فيليكس)، و(الحج)، والثورات العربية وبخاصة سوريا (الآن)، وكأس (أوروبا وأفريقيا)، وما تظهر من أحداث مفاجئة كالهزات الأرضية والفيضانات، وبعض التجاوزات والإساءات مثل (الفيلم المسيء) للرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم وغيرها العديد، وإن قلَّ الحديث عن المنجزات العلمية والإبداعية وانحصر عند العلماء والمثقفين ومنهم النخبويون، أما عند غيرهم فهي طفرات سرعان ما تنتهي فور انتهاء الحدث، ولا يبقى صداه سوى وقت قصير ليأتي حدث آخر، ويبقى صداه حتى يأتي ما هو جديد.. هكذا هو حديث الشارع في كل مكان، وأظنه في كل زمان.. الحديث الآن وقبل أيام عن الحج، لكن الحج انتهى، وانتهى الحجاج من أداء فصول ركنهم الخامس؛ الفرض الرباني، والركن الذي يكتمل به الإسلام ويتم..

نعود مرة أخرى إلى الحداثة، التي تقودنا إلى كل ما هو جديد وتطور ويخدم الإنسان، بعيداً عن الأمور الفلسفية التي فيها تجاوز للأمور العقدية والدينية، والتي قد يفهمها البعض أنها تتعارض والدين..

نعم نحن كمسلمين نأخذ ما يتوافق وشرعنا ونترك ما يشوبه، ونسعى لتطوير أنفسنا بما يخدمنا في كل المجالات والميادين الإنسانية على اختلافها وتنوعها، ومن هنا ندرك أن الدين والحداثة خطان لا يتعارضان وفق النهج الذي يرى أن الحداثة مبدأ وفكر بجانب ومع (عكس القديم) بعيداً عن الأطرنة في الدين والعقيدة، فهي أي الحداثة ليست بعيدة عنا ولسنا بعيدين عنها بهذا النهج..

وهنيئاً لكل الحجاج؛ لا فرق بين عربي وأعجمي، وأسود أو أبيض في يوم عرفة، ونظل ننتظر دوماً كل ما هو جديد.

Albatran151@gmail.com الأحساء

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة