وما زال الحديث عن مشكلات النقد العربي المعاصر، تلك المشكلات التي يطول الحديث عنها، وتَحتاج كل مشكلة منها إلى دراسة خاصة، وحسب هذه الأسطر أن تشير إلى الخطوط العريضة وتضع النقاط على الحروف، وإذا كان الجزء الأول من هذا المقال أشار إلى إشكالية المنهج فإنَّ أمام نقدنا المعاصر مشكلةً أخرى لا تقلُّ عنها خطورة، وسبق أن أشرتُ إليها في ثنايا مقالات سابقة، وهي قضية المصطلح الذي لا يَخفى على أحد أهميته في أي علم؛ حيث يقوم بدورٍ أساس وأثرٍ فعَّالٍ في تكوين المعرفة، ولا يُمكن أن تنهض أي ثقافة ويستقيم صرحها إلا إذا كانت قادرةً على إنتاج معرفة خصبة جديدة، تُوجِّهها اصطلاحات واضحة الدلالة، وبالمقابل فإنَّ هذه الثقافة نفسها مُعرَّضةٌ للتقويض والتفكك لأسباب كثيرة؛ من أبرزها اضطراب دلالة المصطلح، وتكاثر المصطلحات، وتعارض مفاهيمها، وعدم استمرارها، ولذلك فلا غرو أن يُقال «إنَّ منزلة (المصطلح) من (العلم) هي بِمنزلة (الجهاز العصبي) من الكائن الحي، عليه يقوم وجوده، وبه يتيسَّر بقاؤه، إذ إنَّ المصطلح وحدة نظريات (العلم) وأطروحاته».
وإذا كان ما سبق يكشف عن الأهمية القصوى التي يَحتلها المصطلح في مساحات العلوم والمعارف، فإنَّ هذه الأهَميَّة تزداد إذا كان الحديث عنه يتم في سياق الدراسات الأدبية والنقدية؛ ذلك أنَّ له دوراً حاسِماً وفاصلاً في تَحديد كثير من المفاهيم المتداخلة أو المتشابهة، كما أنه يضطلع بدور مِحوري ومؤثر في ضبط المفهوم والتفريق بينه وبين الآخر، سواء أكان ذلك في سياق دراسة نقدية تنظيرية أم تطبيقية.
وحين يكون الحديث عن المصطلح النقدي والأدبي فإنَّ أكثر ما يلفت النظر في هذا السياق هو عدم غنى المكتبة الأدبية بالمنجزات التي تتناول المصطلحات النقدية والأدبية التراثية، فهي قليلة نسبياً؛ ربَّما لأنَّ التأليف فيها يَحتاج إلى وعي قرائي، وثقافة تراثية موسوعية، وإلمام منقطع النظير فيما يتعلق بكثير من القضايا الأدبية والنقدية التراثية، ومثل هذا الأمر يتطلب جهداً شاقاً بلا شك. واللافت هنا أنَّ تراثنا العربي لا يشكو إطلاقاً من قلة المصطلحات، إذ إن هناك تراثاً عربياً يتمثَّل فيما يزيد على 1500 مصطلح أدبي وبلاغي ونقدي، وعلى الرغم من ذلك فإنَّ هذا التراث المصطلحي الضخم يُواجه عدداً كبيراً من المشكلات التي تَجعل المتأمل له يُواجه كثيراً منها حين مقاربة النصوص الإبداعية أو قراءة الممارسات النقدية حول تلك النصوص، ومن أبرز تلك المشكلات غياب المصادر الشاملة للمصطلح النقدي، وكون أكثر معاجم المصطلحات لا تعدو أن تكون كتباً مترجمة عن معاجم غربية، وأحسب أن هذه المشكلة ستظل قائمة ما دام المعجم النقدي الحديث بعيداً عن التحقيق، وأرى أنَّ وضع معجم للمصطلحات النقدية ليس بعيد التحقيق، إذ لدى جملة من الباحثين من ذوي النظرة الموسوعية والذوق السليم القدرة على فعل ذلك، ويمكن أن ينهض بهذا العمل مجامع أو جامعات أو اتحادات أو مؤسسات رسمية. ومن المشكلات التي تواجه المصطلحات والمصطلح النقدي بشكل خاص فوضى دلالات المصطلحات واضطرابها وعدم حصر مفهوماتها، وهذه المشكلة في الحقيقة هي جزء من الفوضى المصطلحية بشكل عام عند العرب، ولا يخفى ما يُواجهه العلماء من عناء في هذا المجال، حتى أضحت قضية المصطلح النقدي معضلة كبرى في طريق البحث والتفكير العربيين، وساهمت إلى حد كبير في إعاقة البحث والمعرفة.
كما أن مِمَّا يزيد من هذه المشكلات عدم فهم المصطلح النقدي عند بعض المؤلفين والباحثين، ولعل ذلك يرجع إلى التكوين الثقافي لهذا المؤلف أو الباحث، إضافة إلى حرية الوضع التي لولاها لما تزايدت المصطلحات حتى بلغت المئات، ولولا ذلك لما تشعبت الدراسات ونمت اللغة العربية، وأصبحت قادرة على استيعاب الجديد، بما فيها من قدرة على التوليد والمجاز والاشتقاق.
وتتفاقم مشكلة المصطلح ليصل الأمر إلى ظهور فوضى المصطلح التي يكون منشؤها الترجمة والتعريب، فقد نتج عن اختلاط المصطلح النقدي العربي القديم بالمصطلح الأدبي والنقدي الحديث فوضوية كبرى في هذا المجال، لأنَّ أكثر المصطلحات الأدبية والنقدية الحديثة مستورد من الآداب الأجنبية ترجمةً أو تعريباً.
كما لا يمكن أن نتجاهل ذلك الاضطراب في استخدام المصطلح، وذلك حين يكون المؤلِف أو المثقف يعيش حالة اضطراب منشؤها الثقافة المضطربة، كأن يأخذ المصطلحات من جهة، ويستعملها في جهة أخرى، فيقع الاختلاف والتفاوت، كما حصل بين المغرب العربي والمشرق العربي، أو يكون ذلك المؤلف ذا ثقافة عربية خالصة ولكن لم تتضح أمامه الرؤية، وبالتالي لم يستطع أن يوازن بين ما كان، وما يفرضه الواقع الجديد. كما يُمكن أن نعد من المشكلات التي تواجه المصطلح النقدي ذلك التناول لبعض المصطلحات النقدية على أساس أنها قضية نقدية وليست مصطلحا، مِمَّا يهدر إمكانية تتبع تطور دلالة المصطلح أو تغيرها من مؤلف إلى آخر، ويهدر كذلك إمكانية الوقوف على تميز المصطلح عند علماء - قد سبقوا إليه وتَحدَّثوا فيه - عن غيرهم، وخير مثال على ذلك مصطلحا اللفظ والمعنى.
وإذا كان ما سبق يكشف عن مشكلات يواجهها المصطلح القديم بالدرجة الأولى فإن مشكلات المصطلح الحديث تظل الأكثر حضوراً، وهي ما يهمنا في هذا السياق، فمنها ما يتصل بالمصطلح نفسه، وأكثر المشكلات في هذا السياق تزاحم أكثر من مصطلح على وصف ظاهرة معينة، وهذا الأمر يدفعه إلى تداخله مع مدلولات أخرى، ولعل السبب في هذا الإشكال هو غياب الدقة في التأسيس، فالمسألة تصبح أكثر تعقيداً حين يحاول المخترع فرض مصطلحه على شكل أدبي مستحدث، ومع هذا نلحظ أن هذا المصطلح يلقى رواجاً في الأوساط اللغوية والنقدية.
كما أنَّ من المشكلات الجمع بين النقيضين في المصطلح الواحد، وليس أدلّ على ذلك من قصيدة النثر، إذ كيف يجتمع الشعر والنثر في مصطلح واحد، بل كيف نصف النص الأدبي بأنه شعر ونثر في الوقت نفسه، وقد دعت هذه الإشكالية إلى استبدال هذا المصطلح بغيره وهو (النثيرة)، لكنَّ الشيوع والانتشار كانا من نصيب المصطلح الأول.
ومن تلك المشكلات ما يتصل بالمعاجم والمعجميين، ويأتي على رأس المشكلات في هذا الجانب الاعتماد على طرق التعريب التقليدية (الاشتقاق، النحت، التركيب، المجاز) مِمَّا ساهم في بطء وضع المصطلحات، وهذه الطرق لا تَخرج غالباً عن الأوزان الصرفية المعروفة في الفصحى، غير أنَّ التزام هذه الأوزان وعدم تَجاوزها يُمثِّل تَحدياً أمام من يقوم بوضح المصطلح.
ومن مشكلات هذا الجانب حدوث التراكمات على مستوى الإبداع والنقد، وتَخلُّف معاجم المصطلحات الأدبية الموجودة عن مسايرة الإنتاج المعاصر، فالأدب والنقد في حركة دائبة، وفي كل يوم نشهد عدداً من النصوص الأدبية والمناهج النقدية، غير أنَّ المعاجم النقدية لا تفي بِمتطلبات تلك الحركة، كما أنه لا يُمكن أن نغفل في هذا السياق الجرأة على وضع المصطلح النقدي، حيث يستطيع كل من أراد أن يضع ما شاء من مصطلحات دون الرجوع إلى جهة رسمية بذلك! فالمصطلح ما سُمِّي بذلك إلا لاصطلاح فئة من الناس عليه.
ويُمكن أن نعد ضمن هذه المشكلات ربط المصطلح بالآداب الاجتماعية، ولعل سبب هذه الإشكالية هو الخلط بين شخصية الأديب ونتاجه الأدبي، فبعضهم يظن أنَّ في نقد النتاج الأدبي إضراراً بشخصية الأديب وإلحاق الأذى به، كما فعل أحدهم حين رفض مصطلح (النقد) بحجة أنَّ فيه نوعاً من الإساءة إلى الأديب وتتبُّع سقطاته الأدبية، واستبدله بالنصح الأدبي، وأنَّ هذا المصطلح الجديد فيه بُعدٌ عن الغيبة المحرَّمة شرعاً! ومن مشكلات مصطلحات نقدنا المعاصر ما يتصل بالترجمة، وهنا تتفاقم المشكلات وتكثر، فمن ذلك تعدد المصطلحات حسب المدارس المختلفة، مما يؤدي إلى فهم هذه المصطلحات بصورة تخالف ما قصده واضعها الأول، كما أنَّ منها الشعور بأنَّ بعض المصطلحات تتسبب في الاعتداء على حرمة المعاني التي ارتبطت بهذه الكلمات في الحياة العادية كما نرى في مصطلح (التشريحية)، وكذلك الشعور بأنَّ بعض المصطلحات تخرج على مقاييس اللغة وذوقها مثل مصطلح (زمكانية).
وما دام الحديث عن المشكلات المتصلة بالترجمة فيمكن أن نذكر في هذا السياق عدم وجود مقابلات عربية دقيقة لبعض المصطلحات الأجنبية، كما يمكن أن نعد من ذلك نقص خبرة المترجم في مجال التخصص العام أو الدقيق، وضعف قدرته اللغوية بالنظر إلى السياق الحضاري الذي أُسِّس فيه المصطلح، وهذا يؤدي إلى ترجمة المصطلح ترجمة حرفية وصياغته بعبارة طويلة، وتعجُّل تداوله قبل التحقق من فعاليته في اللغة الأصل، ومحاولة بتره عن المقاربات المصطلحية الأخرى.
ومن المشكلات المتصلة بالترجمة اختلاف دلالة المصطلح، وإطلاقه على عدد من المفاهيم، وهذا راجعٌ إلى عدم دقة المصطلح ووضوحه في اللغة الأصل، مثل مصطلحي (فونتايك) و(فونولوجيا) اللذين يُعدَّان من أكثر المصطلحات استعمالاً في علم اللغة الإنجليزي، ومع هذا نَجد لَهما عدداً من التفسيرات التي تُوقع في الحيرة والارتباك.
ومن المشكلات ما يتصل بالبيئة الثقافية، كعدم وجود جهة معينة بوضع المصطلحات ومراجعتها وإقرارها وإشاعتها بين النقاد، فالمصطلح لا يكتسب قيمته بِمُجرَّد اقتراحه ووضعه مهما بذل صاحبه فيه من جهد، ومهما كان دقيقاً، وإنما يكتسب هذه القيمة بشيوعه واستعماله.
كما أنَّ من المشكلات المتعلقة بالبيئة الثقافية عدم تقيُّد بعض الجهات الثقافية والمجمعية بضوابط وضع المصطلح، ولا شكَّ أنَّ هذا يفتح الباب على مصراعيه لكثير من المشكلات الأخرى، كما أنَّ من إشكاليات المصطلح الحديث تعدد البيئات الثقافية في الوطن العربي، وصلابة الحدود المصنوعة بين الأقطار العربية، ولا أدل على ذلك من بيئة المشارقة والمغاربة، مِمَّا جعل كل ناقد من النقاد يجتهد اجتهاداً فردياً لنقل المفاهيم الغربية، واختيار الكلمات العربية التي يُحسُّ هو أنها تَحمل دلالات المصطلح الأصلي من وجهة نظره.
Omar1401@gmail.com
الرياض