- أعرف الناس من أكلهم للخبز.. الفقير تصل أسنانه لمنتصف الرغيف قبل أن يتذوق أطرافه, والغني يقطعه أرباعا بحد سكين ثم يأكله، أما الذي يقطع أطراف الرغيف بيديه فأعلم أنه عفيف يتصنع الشبع!!
صباحا كان يدعوني لداخل مخبزه الصغير بحارة النور ليقدم لي كعكا وفنجان قهوة يواصل أثناءها غناءه مع فيروز بطلاقة وانسجام تاركا ليديه مداعبة كيس طحين يرشه بالماء من حين لآخر وهو يؤدي تمرينات العجن باعتياد..
- لو أن سميراً هنا لأصبحتما صديقين بالتأكيد.. هو الآن بعمرك!
ويعاود الغناء وهو يفرك الطحين بدلال ثم يقطعها أجزاء متساوية يرميها بفرنه فتثور خجلا وتنتفخ بحرارة الفرن ليتلقفها مشتاقا..
كان بحاجة أن يتحدث عن هذا السمير -الذي تركه صبيا ليهاجر مع عمته إلى لندن ويصبح فيما بعد طبيبا يغدق عليه شهريا ما يفيض عن حاجته فيدخره لحين عودته- ولم أكن أسأله عن سمير أبدا..
- العالم كله يتحرك احتراما للرغيف.. الحروب تقوم وتقعد وفي كواليسها رغيف!!
في حزن يوم ما لم يدو به صوت فيروز في المخبز؛ أخبرني أن رسالة سمير الأخيرة تطالبه ببيع المخبز وشراء بيت أنيق في حارة نظيفة. كانت المرة الأولى التي أرى بها ملامح الزمن على وجهه كرغيف لم يخبز جيدا!!
أصبح يجلس أمام فرن الشقة الأنيقة -وقد عاد سمير وزوجته ليعيشا فيها-، يشعل الفرن ويراقب اللهب الأزرق يرغب في قطع أجزاء عجين لا يجدها حوله.. تذكرت هذا فقط حين أخبرني المغسل أنه ضاعف كمية المسك وهو يغسله ولم تذهب رائحة الخبز المشعة من يديه...