للريادة سبقُها وأفقها، ومحاكمة الرائد من أجل الحكم له مرتهنةٌ بسياقٍ زماني ومكاني وظروف بيئيةٍ ومجتمعيةٍ، وإخراجُها من هذه المدارات ظلمٌ للتجربة المتقدمة والتجاوز المتأخر؛ فالتعليمُ الحديثُ ارتبط بمبادراتٍ فردية بسيطة، والتحول الإعلامي اصطبغ بطابعٍ عفوي، والقراءاتُ النقديةُ سارت على المنهج المدرسي... وهكذا؛ فكان لذويها فضل التكوين المنطلق من الهوامش نحو المتون، ومن المفرد نحو المتعدد، ومن التلقائي إلى المعقد، ولو قرأنا «قريش» و»البلاد السعودية» و»اليمامة» و»الجزيرة» و»المنهل» و»القصيم»، واستعدنا مدرستي «القرزعي» و»ابن صالح» و»السَّليم»، وتآليف الرعيل الأول لعتبنا على أفهامنا أن تتعلق بنمطية مكرورةٍ تشبه خطبَ الوعاظ ومرتقِي المنابر.
منطقٌ معتاد يردده الجيل بعد الجيل، فنحن «قدماء» عند أجيال و»جدد» عند آخرين، وسيسكن التاريخَ ثلةٌ محدودة من المجددين في أوقاتهم ولو وسمناهم بالمجترين؛ فالريادة لغةُ كل الأزمنة والأمكنة، ولن نحس بالتميز إلا حين ننتقل بآلة الموضوعية فنستعيد الرائحة القديمة للطين والغبار والفقر والتخلف والجهل الذي انبعثت من ركاماته مبادآتٌ سقتها إمكاناتٌ ذهنية ذاتية تصدت وتصدرت؛ فرفعت سارية الانطلاق نحو آفاق التجربة والتأسيس.
في هذا المدى ولد ونشأ وأنجز مبدعُنا الذي وعينا صغاراً تجربته القصصية (سفينة الموتى) برسمٍ يشير إلى مستشفى مركزي في بيئة صامتة تتخوف من «الجدران التي لها آذان»؛ فقادتنا إليه جرأتُه المقصودة أو العفوية، الحقيقية أو المتخيلة، وعرفنا به إرهاصات الإبداع السردي في وسط يحتفي بالشعر ويفتش عن الشعير، ولن يحيد هذا التفسير عن الحقيقة إذا علمنا أن السفينة قد أسميت -فيما بعد- «سفينة الضياع»، ولم نتساءل: أكان يقصد ذاك الذي في أذهاننا أم شيئاً آخر؟ وبخاصة بعدما عرفنا أن فيها بعض سيرته.
قبل ستين عاماً ابتدأ مشواره الإبداعي، ويصنفه النقاد بالرائد الروائي التالي «وربما المتزامن» مع الأستاذ الراحل «حامد دمنهوري»؛ ف»ثمنُ التضحية» نشرت في نهاية الخمسينيات الميلادية ليعقبها «ثقب في رداء الليل» في أول الستينيات، وقبلها كانت بواكير مجاميعه «القَصِّية» متمثلةً في «أمهاتنا والنضال» وتلتها أعماله المتنقلة بين الرواية والقصة لتشمل عناوين كثيرةً منها: أرض بلا مطر، سفينة الموتى (سفينة الضياع)، غدير البنات، عذراء المنفى، غيوم الخريف، عيون القطط، رعشة الظل، نجمتان للسماء، الغجرية والثعبان العاشق، دماء البراءة، وسواها.
الأستاذ إبراهيم الناصر الحميدان رائد السرد الحديث (وهو في الثمانين من عمره المديد) يعيش صمته الطويل وهو يخاطبك، فتراه متأملاً، مصغياً، هادئ النبرات، غير مُدلٍ بتاريخه، وهو ما أكسبه المحبة في الوسط الثقافي المحلي والعربي.
الأستاذ الحميدان مشاركٌ نشطٌ في الكتابة المقالية والحضور المنبري مصطفًا بجانب تلاميذه وأبنائه، يأخذ منهم ويعطي لهم؛ مدركًا أن زمنهم مختلف، وتجربتهم متجددة، وفي يومٍ -قبل نصف قرن- حمل مشعل التنوير والتثوير على الوضع الراكد بحثًا عن العدالة الاجتماعية؛ فعُرف مجدداً، وهم -الآن- يقتعدون كرسيه، وسيحكم عليهم أبناؤهم أنهم مكرِّرون متكررون.
الحياة بناءٌ لا يكتمل.
Ibrturkia@gmail.com