Culture Magazine Thursday  10/03/2011 G Issue 334
قراءات
الخميس 5 ,ربيع الآخر 1432   العدد  334
 
بين الأدب والفكر
فاروق صالح باسلامة

يحلو للأديب أن يكون مفكرًا، والمفكر قد لا يكون أديبًا، وفي كلتا الحالتين يظهر أو يبدو الأدب والفكر في معية واحدة وفي صف واحد، إذ إن الأدب -كما هو معلوم- الأخذ من كل علم بطرف والفكر هو الذي يحرك في المثقف عقله وذهنه، ومن ثم فالمفكر أديبٌ ومثقفٌ حتى يصل إلى درجة الفيلسوف، هذا إذا كان لهذا المفكر موهبة أدبية أو شاعرية.

أما الفلسفة فمعناها محبة الحكمة، هكذا في التعريف المأخوذ عن اللغة الإغريقية القديمة، والفلسفة لها منطق جزل أو نحف ويقال: إن المنطق معناه نحو الفكر البشري.

وليس هناك مقارنات بين هذه المصطلحات بالقدر الذي يفرق، ولكن هذه المصطلحات كافة مصطلحات ثقافية ومعرفية وفنية ليس إلا. بيد أن الأدب هنا منعش لهذه الحركات الذهنية والمصطلحات الفكرية لأنه يحمل في باطنه رقاقات عاطفية وأدبيات حلوة وفنونًا جميلة.

هذه المعالم الثقافية بين الأدب والفكر والفن والمنطق والشعر والذهن لهي تعبيرات ذوقية تصل بين الذهن والفكر فيعبّر بها الأديب عمّا يعلمه لغةً وأدبًا وثقافةً. وصار لهذه الثقافة محبون خاصة في القرون الماضية وبالأخص الشعر والفن الأدبي وكان ذوو السلطة يقربون إليهم الأدباء والشعراء والفنانين أمثال الرواة والإخباريين كحماد الراوية وخلف الأحمر والأصمعي الذي كان يروي كثيرًا عن الأعراب ومثال على ذلك أنه التقى بأعرابي فقال له ما صناعتك؟ فقال الأصمعي: الأدب، فقال له الأعرابي: نعم الشيء هو فعليك به فإنه ينزل المملوك في حد الملوك!.

وتطور التاريخ في الآداب والمعارف والفنون فصار لها كتب ودواوين ومؤلفات ومجاميع كما تطور الأدب ولغته وتفكير أدبائه وشعرائه ودون كل ذلك كما في الأغاني لأبي فرج الأصفهاني والأمالي لأبي علي القالي والكامل في اللغة والأدب للمبرد وأدب الكاتب لابن قتيبة الدينوري والبيان والتبيين للجاحظ وسواها من الكتب التي وصلت العصر الحديث التي لم تصل وذهبت نهبا لهولاكو الذي دمر بغداد بما فيها من الكتب والمكتبات حتى غدا نهر الفرات ودجلة خليط الحبر والمداد.

هذه الأشياء تدلنا على الثقافة وانصياع الأديب وراءها؛ لأنها قيمته وهدفه في سبيل أعماله الأدبية التي تكون زادًا فكريًا وثقافيًا لهذه الأشياء.

والثقافة التي يضطلع بها الأديب أو الشاعر ثقافة من المفروض أن تكون واسعة؛ لأنها تشكل الحقيبة التي تحمل في ثناياها كل معنى يريد الأديب إيصاله منها لجمهوره من القراء والمتلقين، وهذا شيء مستجاد. إنما الشيء المحيِّر في موضوعنا تساؤل يقفز ليقول لنا: هل الفلسفة التي أشرنا إليها آنفًا مسألة أم مشكلة؟ وإجابة الأديب عن ذلك ليست مشكلة بقدر ما هي مفهومة لدى الجمهور؛ لأن الفلسفة لها علمها وثقافتها بالقدر الذي ازدهرت في العصور الماضية خاصة المدرسة الإغريقية في الفلسفة وما تلتها من المدارس التي كان من أبرز أعلامها الكندي والغزالي والفارابي وابن طفيل وابن رشد وابن خلدون.

أما الأدب والشعر فازهارهما وارد منذ القدم في تاريخنا العربي ويقول مؤرخو هذا الأدب: أإنه يمتد من قرن ونصف القرن من قبل هجرة المصطفى عليه الصلاة والسلام. فالعرب أمة شاعرة تحن للطبيعة وخالقها فتعبر عن الحق والخير والجمال شعرًا ونثرًا وفكرًا.

والبيان العربي أسلوب أدبيٌ رشيقٌ وأنيقٌ بلغته أنزل القرآن وورد الحديث النبوي وكُتب بها التراث العربي الإسلامي الذي يحمل في طياته علوم العرب وآدابها فبطبيعة الحال ازدهر الأدب بجوار الفكر وازدهر الفكر بضياء الفلسفة تجمعها كليًا الثقافة العربية والإسلامية وتراثها الفكري والأدبي والمعرفي، الذي يجمع محيطًا معنويًا وفكريًا وأدبيًا وفلسفيًا يزخر بالأفكار والقيم والمعاني والمعارف والثقافة والإعلام ووسائله القديمة والحديثة التي كانت ولم تزل تعبِّر عن أدب الأديب وشعر الشاعر ورمز المجتمع العربي الأصيل. فالشعر قديمًا هو المحور الإعلامي الذي يعبِّر عن هذا المجتمع في شؤونه وشجونه وأموره وأنشطته وسلمه وحربه، والشاعر هو بمثابة وزير للإعلام ينصر قومه ويشد من أزرهم بلا هوادة إلا الكلمة الفصحى والفكرة الإيجابية. وهذا من شأنه أن يأتي بالنصر والغنيمة والسلام لأمته وإنهاء للحروب التي تمتد سنين وشهورًا وزمانًا طويلاً.

وعندما جاء الإسلام اتخذ دينه البيان والأدب محورًا لتعاليمه التي جاء الرسول الكريم عليه الصلاة والتسليم، كما ورد في حديثه: (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق)، فرأينا الشعراء أمثال حسان بن ثابت وعبد الله بن رواحة وكعب بن مالك وغيرهم يدافعون عن حمى الدين وبيضته، وذلك دفاعًا ضد الأعداء من المشركين والكفار والمنافقين، فغدت الأمة أمة خير ورحمة وبركة. ودخل الناس في دين الله أفواجًا.

إن الأدب الإسلامي وليد أدب حسان وابن رواحة وكعب وازدهر بفضل الله على مرِّ السنين والقرون إلى يوم الناس هذا. يتخذ من الفكرة الدينية متكأً للشعر والخطابة والأمثال الشيء الذي رضي عنه النبي عليه والصلاة والسلام وصحابته رضوان الله عليهم.

وأهم ما يربط بين الأدب والفكر هو المضمون الفكري والفني وتحليلات النقاد وتفسيراتهم، فالمضمون الفكري معنى النص وقيمته، أما النقد والتحليل فهو قراءته، أي قراءة النص وتفسيره بحيث يغدو فني المضمون وموصول الكلم.

ويرى بعض النقاد أن مفهوم الأدب لا يتعارض من الدور الذي يقوم به العلم في تفسير الظواهر الكونية والطبيعية والإنسانية وإنما يضاف إلى ذلك لأن العلم لا يملك التجربة الجمالية والنفسية التي يستخدمها الفن في صياغة وجدان المتلقي وفكره، ولذلك فإن مفهوم المضمون الفكري في العلم يختلف عنه في الأدب: ففي العلم ينتهي دور المضمون بمجرد استيعابه عقليًا بصفته مجرد حلقة في سلسلة طويلة ومتطورة من الأفكار والنظريات العلمية المتواصلة، أم في الأدب في المضمون الفكري من خلال تفاعله مع الشكل الفني لا يجبه مضمون تال حتى لو كان يعجل نفس القضية الإنسانية.

ومجاراة لما سبق فإن المعنى في المضمون الأدبي لا بد أن تتعدد دلالاته وإيحاءاته من متلقٍّ إلى آخر من عصر إلى عصر. ولسنا مع هذا الناقد الذي أوردنا شيئًا من أقواله حين يقول: ولا بد أن يستقل معنى العمل الأدبي عن هدف الأديب بمجرد الانتهاء من إبداعه؛ لأن الأديب إنما يبدع وهدفه هو إفادة المتلقي؛ فكيف بالله نفصل هذا الهدف عن ذاك العمل! كما يحلو لهذا الناقد.؟ ونحن نرى أن العمل الأدبي وهدف قائله لا ينفصل أولهما عن الآخر؛ لأن أي أديب إنما يعمل بأدبه وله هدفٌ يهديه للمتلقي. ولا يبعد هدف المفكر عن هدف الأديب؛ لأن الأدب صنو الفكر، والفكر صنو الأدب، فلكل منهما أهداف جديدة وإن كان الخيال قد يدخل العمل الأدبي، أما الفكر فإنه ماسك بزمام عمله ولهذا يتجنب النقاد العمل الفكري إلا فيما ندر ويبدلون ذلك بالعمل الأدبي.

على أن المتلقي لهذين العملين العمل الأدبي والعمل الفكري هو الذي يميّز بينهما في سياق الكاتب المفكر أو الكاتب الأدبي.

في رأينا أن أي عمل ثقافي هو الذي يفرض نفسه على مبدعه أو كاتبه فينقله للجمهور ولكن هناك من يرى أن المضمون الفكري حتى لو كان فكرة شائعة أو قضية يعلمها الجميع متى تفاعل مع الشكل الفني للعمل الأدبي أصبح خاصًا به وليس له امتدادٌ خارجه أو اتصال بأي شيء آخر. ولذلك فإن مضامين الأعمال الناضجة تبدو جديدة كل الجدة بالرغم من أنها مستوحاة من أفكار ومضامين العامل الفكري. ونحن نسير في هذا السياق ونؤيده؛ لأن الأديب الواعي هو الذي يجسِّد هذا التفاعل بين هذه الأفكار والمضامين وبين تطورات العصر الذي يعيشه، الذي يلقي عليها أضواء جديدة وينظر إليها من زوايا معاصرة لم تكن تتأتى لمن سبقه من الذين عالجوها وجسَّدوها في أعمالهم. الذي نقصده هنا ليس التفرقة بين الأدب والفكر بقدر ارتباط الأول منهما بالآخر وقد اهتم نقاد الأدب والأعمال الفنية بالمسرح والدراما الفنية أكثر من الحديث عن الفكر الذهني والأدب الشعوري وحتى عندما يتحدثون عن الدراما فإنهم لا يعطون ذلك إلا بالقدر اليسير، فما بالك بالحديث عن الفكر البحت والأدب الجميل وكذلك عندما يأتي الحديث عن المسرح، فإنهم ينساقون فيه ويهملون في الوقت نفسه الفكرة الأدبية والأدب الفكري، بمعنى آخر لا تجد فيما يكتبونه الثقافة والفكر والأدب إلا من زوايا خافتة، وبين يدي الآن موسوعة الإبداع الأدبي للدكتور نبيل راغب يكاد يكون الوحيد الذي تحدث عن الإبداع الأدبي بمنظور فكري؛ لأنه يتحدث في هذه الموسوعة الجميلة عن مصطلحات الإبداع الأدبي وقد اهتم فيها أن يعطي المتلقي بلاغات فكرية وثقافية وأدبية من خلال تلك المصطلحات الإبداعية، فتجده يتحدث في هذه الموسوعة تارة عن الأسلوب والإلهام وتارة أخرى عن البلاغة والخيال، ثم يتحدث عن الشخصيات والشكل الفني، ثم عن اللغة والمحاكاة وهكذا تمضي موسوعته بأسلوب سهل إلا أن المضمون الفكري هو المصطلح الوحيد الذي يتناول فيه الفكرة الأدبية والأدب الفكري في هذه الموسوعة.

وللدكتور نبيل راغب موسوعات أدبية مماثلة لموسوعة الإبداع الأدبي من أبرزها موسوعة الفكر الأدبي ويقع في زهاء 400 صفحة وله في هذه الموسوعات منهج اتبعه في سياقات أدبية وثقافية وفنية ونقدية الشيء الذي يجعل منه ناقدًا موسوعيًا وأدبيًا وفنيًا، ومن هذه الموسوعات موسوعة عظمى تلم بالنظريات والمناهج والرؤى الأدبية والثقافية والفنية بأسلوب فكري موحد ومنهج أدبي موثق.

ويبدو أن المؤلف الموسوعي نبيل راغب له خبرة منهجية وفكرية في أدب الموسوعات إن صح التعبير، إضافة إلى خبرته الجامعية والأكاديمية في دروس الأدب ومناهجه التعليمية، وإذا عددنا هذه الموسوعات فإنها تنيف على الخمس موسوعات وهذا ما وقفنا عليه، أما مؤلفاته الأخرى فلنا فيها مواقف تالية إن شاء الله..

ومن يدرس هذه الموسوعات مطلعًا فيها باستقراء فإنه يدرك الأعمال والآراء ومصادر المعلومات التي أدرجها الدكتور راغب بين الأدب والفكر، والثقافة والنقد في أسلوب فني ومنهج فكري، مما يدل على أنه غاص في محيط الآداب والعلوم والفنون والمعارف، وبحار الثقافة المترامية والواسعة والبعيدة الغور. ومثل هذه الأعمال الأدبية جديرة بالرجوع إليها للمثقفين والأدباء والنقاد كذلك نظرًا للسمات التي تحملها من دقة في التعبير وسيرة في الأسلوب وعمق في الفكرة وشمول في النظرية.

ولئن أطلنا الحديث عن موسوعات الدكتور نبيل راغب فإن أسلوبه فيها قد جرنا إلى ذلك ولله في خلقه شؤون.

كما أن سياقاته وموضوعاته كثيفة المخبر وجليلة المعنى وبإمكاننا إدراج هذه الموسوعات بين الأدب والفكر كموضوعات أدبية تتسم بالفكرة والفن والثقافة لمن أراد أن يطلع عليها ويبحث فيها ويقف أمامها ليجد كل فائدة ومعنى ومصطلح وفكرة.

إن بين الأدب والفكر علاقة وطيدة خاصة إذا علمنا أن الموضوعات الأدبية يجسِّدها الفكر ويقيم عليها كونًا من المعاني والأفكار، الشيء الذي يعطي الموضوع الأدبي فكرًا ثقافيًا وموضوعًا فنيًا يمشي في دروبها العمل الأدبي أو العمل الفني نحو المتلقي الذي -إذا لقي مثل هذا العمل الأدبي القوي الأخاذ- أن يفيد منه فكريًا وثقافيًا وأدبيًا، وبذلك يتضح الموضوع الفني بين الأدب والفكر ثقافيًا وفلسفيًا ولغويًا وأسلوبًا على أننا نضغط قليلاً على الأسلوب اللغوي الذي يسير عليه هذا الموضوع نظرًا لأهميته الفنية بين الأدب والفكر وبذلك يكون الفن بينهما موصولاً واللغة أسلوبًا..


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة