عبد الرحمن صالح العشماوي
100 صفحة من القطع المتوسط
لشاعرنا العربي القديم بيت شعر ما برحنا نردده مع كل عشق.. عشق وطن، عشق أرض، عشق طبيعة، وعشق إنسان..
ولي مذهب فيما عشقت من الهوى
وللناس فيما يعشقون مذاهب
وقصائدي لبنان عنوان تعشق ما أظنه يتحرك دائرة حب ضيقة، حسبي أنه أخذ من كل ألوان العشق بطرب.. ربما!
بداية تأخذنا الحيرة كل مأخذ.. العشق لا مكان ولا مكانة في ضبابية الحيرة: إلا أن يكون مشهداً يستعصي على قدرة التحمل باعثة الحب!
ريع منها وقد بدا وجهها الغض
وغنى الهيام في شفتيها
هزه الموقف العنيف، أيخشى
اليوم من حسنها ومن مقلتيها؟
وهو من ذوَّب الليالي بلحن
يتغنى بالورد في وجنتيها
لم تعد حيرة بلهاء كما نحسب.. وإنما عاصفة وجدان رسمت حيرة مرسومة على ملامح من يهوى:
ما له اليوم يسكن الخوف فيه
ويلقي الإصرار في عينيه؟
إنه اليوم حائر بين خوف
من هواها وبين شوق إليها
هو في حيرة، وكم من نفوس
حيرته الخطوب فيما لديها
زمن ضاعت الموازين فيه
فغدا الدرهم الرديء جنيها
هنا ثبتت الرؤية.. واستبانت ملامح حيرة الغبن واختلال الموازين بين خانة الملاليم وخانة الملايين في بورصة الحياة.
«في مهب الريح» شدة جرح لبنان.. ومشهد الأحزان، وقسوة الإنسان.. فجاء العنوان:
لبنان جرحك في الأحشاء يلتهب
ولم يزل يتساقى دمعك العَرَب
جاءوا إليك قرارات مزجمرة
أوراقها في مهب الريح تضطرب
شاعرنا اختار مفردات وهي غير خاطئة.. وأحسب أن زرافات، أو جماعات.. أنسب
جاءوا إليك بأسياف ملمعة
سهامهم فوق صدر الليل تنتصب
أتنكرين؟ وما زف العدو إلى
عينيك من أرق إلا له شحبوا
أتنكرين؟ وما نالتك قنبلة
إلا وثارت لها الأشعار والخطب
إنها بضاعة العاجز يا عزيزي.. وما زالت البضاعة بخسة قبل جرح لبنان، وبعد جرح العراق، والسبب ما أشار إليه بيتك
تالله ما نزلت بالعرب نازلة
إلا وتفريطهم في دينهم سبب
ومن جرح غائر.. إلى جرح آخر نزف دمه صديدا على مخيمات أهلنا في صبرا وشاتيلا.. اجتزى من قصيدته بعض المقاطع:
«صبرا» و»شاتيلا» تصيحانِ
أواه من جرحي، وأحزاني
ما هذه الأشلاء تملؤني
رعبا وما هذا الدم القاني
بالأمس كان الفجر يعشقني
واليوم يخشى الفجر جثماني
بالأمس أصوات تؤنسني
واليوم هذا الصمت نعشاً لي
دراما إنسانية لها صوت مفجوع، موجوع، ومبحوح يتساءل في حرقة، وعتب.
يا أمة ما كنت أحسبها
إلا ستحميني، وترعاني
كم غادة صاحت وما وجدت
من يحتويها من دم الجاني
وما زال الصوت يقرع بوابة الصمت القاتل دون أن تفتح له.. لأن الجسد الميت لا يحس بالجرح.. ويتساءل شاعر مع شهر رمضان!
جئت بعد الغياب يا رمضان
وفؤادي.. كما ترى ولهان
كيف ألقاك أيها القادم الفذ
ونفسي تذيبها الأحزان؟
أم أبث الهموم، فهي لهيب
يتلوى من حرها الوجدان؟
بِمَ أفضي إليك من نبأ القوم
وماذا أقول يا رمضان؟
أعن القدس والضحايا فهذا
نبأ قد عفى عليه الزمان
شغلونا عن شأنها بقضايا
وقفت دون حلها الأذهان
في السودان قضية، وفي الصومال أخرى، وفي العراق قضية القضايا، ورابعة في أفغانستان، وخامسة في الباكستان وسادسة بين غزة ورام الله، ومن يدري أين يأتي الدور وعلى من؟! مستهدفون يا عزيزي العشماوي لأننا نمتلك قوة الضعف.
يعاود شاعرنا حلم العودة لمن شرد عن وطنه في لبنان.. وفي غير لبنان..
رحال، والعزم ردائي
واللقب المحبوب «فدائي»
يا من تستمتع برحيلي!
وتذوق اللذة بشقائي
أن أرحل عن أرضي اليوما
فغدا بالهمة سأعود
وسأمزج تربتها بدمي
وأكافح عنها وأذود
ملاحظة عابرة.. وددت لو أن الشطر الخامس جاء كالآتي «أن أرحل عن أرضي يوماً» يعني أي يوم.. وفي أي زمان لعلها أنسب..صوت رحيل مرت عليه السنون.. أعقبه أكثر من سجين في معتقلات إسرائيل..
وعملية تطهير عنصري على ما تبقى من أرض فلسطين.. وعن مخيمات الشتات.. والظمأ.. والظلام.. والظلم:
نصب الليل خيمتي الظلماء
وأبان الصقيع جور الشتاء
والرياح الهوجاء تنشد لحنا
ملحميا يزف عرش الغناء
وصغير يخبئ الليل منه
تحت إبطيه باقي الأشلاء
وبيوت تبرأ الأهل منها
وكساها الإرهاب ثوب الشقاء
اليوم تُدمر البيوت بالصواريخ على أهلها في غزة، تحصد أرواح الأطفال والنساء والرجال بقنابل الفوسفور البيضاء المحرمة دوليا ويفرض حصار الموت على مليون ونصف مليون فلسطيني.. وداخل أرض فلسطين عام 48 تنسف البيوت في عملية تهجير لأهلها.. في ظل تواطؤ دولي فاضح.. وفي ظل تخاذل عربي واضح:
افرحوا يا يهود. نحن كفينا
جيشكم قتل أهلنا الأبرياء
شاعرنا المتجلي العشماوي يأخذنا معه تارة عرب ألم لا بد من طرحه وفضحه.. وعبر أمل يستشرفه في سماء الغد: لعل وعسى:
يا أمتي في خاطري لوعة
تصنع ما يصنع العقرب
فلا خيالي في الهوى سابح
ولا فؤادي للهوى يطرب
يا رافعا في وجه إيمانه
سيف الخطايا كيف لا ترهب
بالرغم من يأسي فنبع الرضا
في خاطري يعطي ولا ينضب
ومن تفاؤله.. يفلسف لنا منطق العصر الذي نعيشه:
نكس الليل رأسه واستدارا
وأتى فجرنا يزف النهار
الشمس غزلت من نورها ثوبا وضيا تزيفه الأزهار..
والندى يتساقط في عشق على الروابي الخضر، وشموخ الجبال بهاماتها كل مقدمات لتاريخ تحكمه متغيرات وتطورات:
ألف عام وفوقها نصف ألف
ملأت جبهة الزمان غبارا
صار فيها القريب جدَّ بعيد
وغدت بعدها الصغار كبارا
حين شاخ النهار فيها صحونا
ويد الليل تضرب الأوثارا
ويسترسل كمن يتتبع آثار عقود زمانه الخوالي:
زمن يدمن الرحيل، ويُلقي
درسه في حياتنا أسفارا
وعيون التاريخ ترصد منه
ما تبقى وتجمع الآثارا
وفي غمرة استرجاعه لصور ما فات وهو يشهد بأم عينيه ما آل إليه حال عالمه من أخطار، وانكسار، وانهيار، يتساءل:
أترانا نجني من الحرب عزا
حين نُجري دماءنا أنهارا؟
أتراها تعود فينا بخير
وترينا على العدو اقتدارا؟
يقتل المسلمون بعضا وإسر
ائيل تبدي في أرضنا استكبارا
هذا هو منطق العصر.. حيث ينتصر فيه حق القوة على قوة الحق.. مع الأسف الشديد.
نخرج من منطق العصر لنلج مع شاعرنا سحنة الليل.. وما أدراك ما الليل!
ما أمامي رؤى عليها حجاب
وورائي رؤى بغير حجاب
ما دهاني أنام في مهد أحلامي
وأصحو على سرير العذاب
فكأن الحياة ميدان رعب
وقوانينها شريعة غاب
وكأن العباد حولي ذئاب
كيف عيش يطيب بين الذئاب؟!
وتلفه الحيرة وقد تسمرت خطاه نحو الأرض.
هل أنا واقف على أي أرض؟
هل أنا راحل بأي ركاب
أيها الراهب الظلام تأمل
سحنة الليل فوق خضر الروابي
وانتظر دفقة الضياء إذا ما
سالت الشمس في بطون الشعاب
سالت الشمس ربما شاعرنا استخدم الضوء مطرا.. وإن كنت أرى أن مالت الشمس أقرب للوضوح.. ما علينا شاعرنا بجمالياته وتجلياته يرسم لنا صورا من الحياة المليئة بالأماني، وبالمعاني الجميلة.
أمتي رب ليلة بت فيها
وكأني والحزن في سرداب
رب يوم قضيته وكأني
من همومي أسير في جلباب
هذا خيار شاعرنا، وكل حر في خياره واختياره، معاناته كثيرة، وهمومه لأمته أكبر وأكثر.. ويبدو وقد عيل صبره:
اعذروني إذا نفضت يدي اليو
م. وأسلمت مقودي للعتاب
ماذا يملك الشاعر غير خطابه، وعتابه.. تلك رسالته..
في فمي يرقص النشيد شجيا
وبقلبي تشب نار اكتآبي
كيف أغفي وأمتي تطأ النار
وتجثو ذلا على الأعتاب؟
كيف أغفي والسوط يُلهب ظهري
وأكف المأساة تقرع بابي؟
صوت صحوة، وثقافة حياة هي كل ما يستطيع بثه حبا، وخوفا على أمته من غائلة الغدر.. وخديعة المكر..
أخيراً.. وفي محطة رحلتنا الأخيرة مع شاعرنا عبد الرحمن صالح العشماوي عبر ديوانه «قصائدي لبنان» أو «لبنان قصائدي» لا فرق نختتم التطواف عند لافتة «هل نسينا الخصاما».. ويبدو أنه يجمع بين السؤال؟ والتعجب(!)..
هاج بي الشوق فاطرحت الكلاما
وتغنيت لهفة وكلاما
وشربت الضياء من شفة الفجر
وبددت في طريقي الظلاما
وأنا أقطع الطريق، وعزمي
كلما سرت خطوة يتسامى
بشرك الله بالخير.. وحقق لك بنشيدك ما تنشد:
أتملى فيها الوجود لعلي
أجد الحب عندها والوئاما
وأرى السالكين درب التآخي
والمثيرين فرقة وخصاما
مشاهد ملاحقة الحاملين لمشاعل العلم والمعرفة.. زراع الحياة بالخير والعدل وحملة الفكر الذين له معهم حساب وأي حساب!
أيها الحاملون مشعل علم
هل بلغتم من الحياة المراما؟
هل سلكتم طريقكم في صمود؟
هل رفقتم عن التذلل هاما؟
ويعود إلى نفسه وقد خلص من غيره.
ها أنا اليوم والحنين كيان
مستقل يزيد قلبي انسجاما
الهوى خاشع أمامي وقلبي
بهمومي عن الهوى يتعامى
وسؤال يظل يقفز نحوي
وجواب يزيد ناري ضراما
ما جرى يا عذولتي ولماذا
تستفزين في فؤادي القراما؟
لقد بعثر هواها في نفسه أمانيه.. وحطم حسامه.. بعد أن كانت تسكن الأنس في قلبه.. هي طفلة تتغنى وهو غلام يتمنى تحقيق الحلم.
كنت أهفو لمقلتيك وكان الجو
صحوا. فكيف صار غماما؟
كنت ألقاكِ والمنى باسمات
أستقي من جفونك الأحلاما
ماذا.. بعد كل هذا؟!
لم نعد نلتقي.. فماذا دهانا؟
ومتى أصبح الوفاء حراما؟
رحل العمر يا رفيقة قلبي
وتركنا وراءنا الأياما
رفيقة دربه حرية يهفو إليها.. يشتاقها.. كان وداعه الأخير لها.. ووداعنا الأخير له:
سوف نمضي على الطريق فإما
نبلغ القصد. أو نموت كراما
الرياض ص. ب 231185
الرمز 11321 فاكس 2053338