بدأ الإنسان فنه بمحاكاة الطبيعة ولا غرابة في هذا فعظمتها المحيطة به لا بد وأنها سلبت لبه ففي عمق الطبيعة يكمن سر البناء ومثالية النسب والإيقاع المرهف جداً. أتوقف عند الجملة التي عنونت بها مرحلة فنية مهمة مرحلة «محاكاة الطبيعة»..وأفكر هل محاكاتها شكلياً هو كل ما فعله الإنسان مذاك؟
تأمل بسيط في طيور إفريقيا وفي أسماك البحار وفي الزهور وفي حركة الغيم وأمواج الماء..في تعدد ألوان السماء..في البصر وأبعاده وفي الخلية وأجزائها, تلك الفضاءات بداخل الفضاءات بداخل الفضاءات.. في الكائنات وعلاقاتها.. في سلوك الدماغ وفنتازية اللاوعي.. في الفضاء والإعجاز الكامن في السماء..وفي الإنسان..هذا الكائن الكوني اللامتناهي.. وفي فلسفة الحياة نفسها. تأمل إن جاء موازياً لدراسة العصور الفنية فإننا نخرج بحصيلة مدهشة..حيث إننا إذا ما تحدثنا عن إتقان التجسيم والظلال ورقي النسب فإننا بالضرورة نعود إلى الطبيعة. وإن تحدثنا عن ترف الأشكال فإننا سنعود دائماً إليها. حتى الفن في أقصى حالات تمرده لا يوازي من قريب أو بعيد تمرد الطبيعة بقصد التوازن, خصوصاً وأن في هذا القصد تحديداً تكمن غاية الغايات حيث «التوازن» هو نسغ القصة.. لا التمرد لذاته. هذا مثال حي عن الطاقة في أقصى رقيها وهي تمنح من ذاتها وحكمتها العظيمة الملهمة.
بعد هذا التقديم إن كان ثمة ما يجدر الإشارة له فهو ذلك البعد المفاهيمي في الطبيعة -الأمر الذي يهمنا في تقدير حاجة الفن المعاصر للتفاعل مع المصادر الأصيلة للحياة- حيث إن ذلك الإعجاز النامي في الطاقة المتاحة للتأمل والتفاسير والتأويلات..يمثل مدرسة عظيمة متاحة لالتقاط الحكمة وللتعلم وللانسجام والتفاعل مع الإنسان في احتمالات مفتوحة كلياً على النتائج المتعددة.. هذه الصفات التي هي ذاتها التي يتبناها الفن المعاصر وإن كان بشكل بدائي بسيط ولكنه يقول عن أهمية هذا النوع من التفاعل لتقدير حجم الإبداع المقدر للمرحلة.
إن التأمل في سنن الحياة كمادة أصيلة لمناقشة حضور الروح والأخلاق والعلاقة بمصدر الرخاء الرباني والانطلاق منها نحو التعبير الفني لهو فن مفاهيمي غاية في الرهافة وجدية القصد ونبل الغاية وغزارة البحث. ربما يقول البعض هنا الكلمات البائتة حول أن ليس على الفن أن يحمل رسالة..ونقول نعم مثلما ليس على الفن أن يجبر أحداً على التحليق عبره.. خصوصاً إذا ما كان منبع هذا النوع من الأفكار أساساً هو في أصله إبداع متكامل حاضر وبإعجاز رباني منقطع النظير ومع هذا لا يجبر أحداً على تقفيه. فما بالك بنا نحن مع الأدنى من هذا!. نحن الذين ما أوتينا من الفن إلا قليلا!.
أقول ختاما إنه إن كان علينا سابقاً أن نحاكي الطبيعة شكلياً فقد حان الأوان اليوم لمحاكاة حكمتها وامتدادها المعنوي المذهل.
الرياض