في المواقف الصعبة تتجلى الكوامن المدفونة ويتكشف حجم الكفاءة الذاتية لدى الإنسان فالحكيم الحاذق يقرأ المواقف بهدوء ويتصرف بعيداً عن الانفعال فلا يتفاعل مع متتاليات اللحظة الآنية بمنطق عشوائي غير منظم إذ العفوية والاندفاع غير المدروس إبان معالجة المواقف داء قتال يتجافى عنه الحكماء وخصوصا إذا كانوا يتقلدون مراكز سياسية حيوية، فما بالك بالمسؤول الأعلى في الدولة حيث القرار هنا سيلقي بظلاله سلبا أو إيجابا على الأمة وستدفع ثمنه بكافة تنويعاتها.
الحكمة في التعاطي مع النوازل السياسية كانت هي الغائب الأكبر عن الزعيم الليبي معمر القذافي حيث تواضع الكفاءة الشخصية لم يسعفه في هذا المقام السياسي المحتدم حيث خانته قواه الذهنية - طبعا هذا على افتراض وجودها أصلا - فراح وبعد أن أسقط من حساباته وعلى مدى تاريخه الطويل كل القيم الأخلاقية راح يتصرف وفق مقتضيات الارتجال الانفعالي وبدا يكيل الأوصاف التحقيرية لأبناء وطنه فهم كلاب وجرذان وعملاء وسكارى وغير ذلك من الألفاظ التي يكتظ بها قاموسه الشتائمي -الذي لا يملك سواه- والذي يعكس ثقافته ويعبر عن جزء من شخصيته المنحطة والتي تكشفت على حقيقتها فبدت شخصية سوقية شوارعية مفتقرة لكل مظاهر اللباقة واللياقة والكياسة والحس العقلاني المُرشّد.
كان من المفترض أن تكون خطاباته -بوصفه زعيما- خطابات مفعمة بالحكمة تتجاوز الآنية وتتقن حسابات المستقبل فتصدر عن رؤية عقلانية متزنة تنمّ عن أفق سياسي واسع فتمتص ولونسبيا حالة الغضب الجماهيري المتصاعد، وتصنع رصيدا متناميا من القبول الشعبي -أو على الأقل تحدث انقساما في الرؤية الشعبية- وتُبقي على ما تبقى من مصالحه وخياراته، وتجنبه الملاحقة القانونية المتصلة بجرائم حرب ضد الإنسانية، هذا هو ما يفترض لكن الذي حدث هو العكس حيث جاءت خطاباته مأفونة متهورة، هستيرية، جاءت كردة فعل انتقامية وكاستجابة انفعالية يجري من خلالها تصريف الاحتقان الناجم عن الشعور الحاد بالانهزامية والألم والإحباط، ولذا لعبت تلك الخطابات ذات النبرة الحادة الناضحة بالكره لأبناء بلدة دورا وظيفيا كبيرا في تسعير نار الخصومة وتأجيج مشاعر العداء العام.
أما على الأرض فقد وقف العالم مندهشا من هذا النفَس العدواني وتلك الروح الساديّة غير العادية من هذا النظام الذي فتح النار فالتهم الأخضر واليابس، وسفك الأرواح، ودك الحصون وسحق الجماجم بأسلحة مضادة للطائرات وبهجمات ظلامية دموية سافرة معتقدا أنه بذلك غيب ليبيا وصادر إنسانها وركّع صفوتها وفرض إرادته الديكتاتورية المتغطرسة ولكن هنا تمت معاملته بنقيض مقصوده حيث بدت ردة الفعل انتفاضة جماهيرية هادرة وسخط شعبي يتلهب رفضا لهذا الواقع السياسي المرير فالحشود بدأت تتدفق على الشارع بشكل مخيف وبدت ليبيا صاخبة ضاجة مزمجرة تموج بالحركة المرهبة وتغص بالجموع التي فاقت صورتها كل تصور.
الإنسان كقيمة، مغيب بشكل لافت في هذا النظام المتوحش وليس له وجود إلا على صعيد التنظير المتعالي الذي لاحظ له على مستوى الممارسة التشخيصية وواقع التجارب الميدانية على أرض الواقع تجهر بذلك.
على المستوى الإعلامي كلما كثر الاحتفاء بالإنسان والتغني بمكانته وأنه يحظى بكافة حقوقه كلما كثر في المقابل على ارض الواقع -العلاقة هنا عكسية- سحق الإنسان ونبذه واضطهاده وإذلاله واسترقاقه. المسألة هنا مسألة شعارات قذافية جوفاء، وكلام يتردد في الهواء لذر الرماد في العيون، القضية لا تعدو أن تكون مجرد دعايات وادعاءات فارغة يراد منها الالتفاف التمويهي على حق الإنسان وكرامته المهدرة من الأصل، إنها طبيعة الطاغية المستبد فهو ممثل يملك براعة فائقة في التمثيل والتلبيس وقلب الحقائق والتظاهر بالطهرانية بينما هو في حقيقته متخم بالشعور العدائي المتجذر لكل ما يمتّ للأنسنة بصلة.
القذافي طاغية -بل قد وصل في الطغيان منتهاه- والطاغية من أبرز صفاته كثرة الإدعاء والمبالغة في الدعاوى لكن دائما واقعه يقف له بالمرصاد فيكذب ادعاءاته، ويفضح دعاويه.
الطاغية يدّعي في خطاباته الخرافية أنه يسهر لمصلحة الإنسان وتحقيق ازدهاره، وأنه يتفانى لتطوير مستواه المادي وتصحيح مساره السياسي بينما الحقيقة أن شعبه ليس حاضرا أصلا في ذهنيته المهووسة بمعاقرة الملذات وهذه سجونه ناطقة بذلك فهي تشرعن التوحش ضد الإنسان فتغص بالنزلاء الذين حيل بينهم وبين فلذات أكبادهم فهم قيد الأسر بلا ذنب اقترفوه، والأغلبية الساحقة تُنحر كما الحيوان أو يوجه الرصاص إلى صدورها العارية.
يزعم أنه عادل وأنه يحسن تقنين مصارف الثروة بينما الآلاف من الشعب الليبي يعيش تحت خط الفقر ويقاسي مرارة الحرمان وفي حالة مأساوية بائسة على نحو يعز نظيره في عالم اليوم المتحضر.
يدّعي الديمقراطية ليل نهار بينما رجال التلصص وأجهزة التصنت مزروعة في كل مكان ولو تسنى له لبثّها في أحشاء كل مواطن، وهو يتوجس خيفة ويستبد به الذعر من كل مطالبة بالإصلاح واسترداد الحقوق فيتعامل مع ذلك بمنطق فرعوني من قبيل «إن هذا لمكر مكرتموه في المدينة»!!
الطبقية ضاربة الأطناب في ليبيا فالإنسان ليس له قيمة إلا بمقدار قربه من عائلة القذافي بحسب ذلك شرط طبقي يتعذر القفز عليه!!، إذ هذه الأسرة ومع أنها أسرة معطوبة في أخلاقها إلا أنها تعتبر في كفة والمجتمع الليبي عن بكرة أبيه بعلمائه وأطبائه ومهندسيه وأخياره في كفة أخرى فهي أسرة نوعية ذات دماء مقدسة وطابع ملائكي ولذلك يفصل بينها وبين الشعب مسافات فلكية مذهلة لا يمكن تجاهلها بحال من الأحوال!. وهذا ما يفسر الحضور الطاغي لتلك الأسرة وهيمنتها على كافة المناشط في الوطن الليبي الوَلاد.
مستوى قربك من الأسرة يحدد مستوى طبقتك، وحظك من الإنسانية مرتبط بمدى قربك من سدنة النظام فكلما دنوت تضاعف نصيبك من الخيرية أما ابتعادك فهو الكفيل بتهميشك ووضعك في دوائر التهميش وفي هوامش النسيان. ابتعادك يعني ارتدادك إلى الوراء، نكوصك إلى الخلف وتراجع مستوى مكانتك القيمية!.
ومحصول القول: إن العالم مطالب بالتدخل ووقف تلك المجزرة الجنونية وذلك القصف الدموي العنيف وملاحقة الطاغية وزمرته قبل أن يفنى المجتمع الليبي ويصبح خبرا بعد عين.
بريدة