معرض الكتاب ليس مجرد احتفال ثقافي أو مجوعة من الفعاليات أو أركان لبيع الكتب، بل هو قبل كل شيء داعم لقيم الثقافة ومثبت لها ومؤشر لمستوى التطور الثقافي للمجتمع وطريقة تفكيره.
فمعرض الكتاب على الاعتبار هو ضامن للحرية كقيمة ثقافية وداعم لاحترام الاختلاف الفكري كقيمة ثقافية ومروج لأهمية التنوع الثقافي كقيمة ثقافية وكافل لقبول الآخر في أشكاله وأفكاره المختلفة كقيمة ثقافية ومعزز للحوار الثقافي بين المثقفين.
كل تلك القيم يجب أن تتمثل داخل أروقة معرض الكتاب، وإذا تجرد المعرض من ذلك التمثيل للقيم الثقافية أصبح مجرد مجموعة من الدكاكين لبيع الكتب؛ أي فقد دوره الوظيفي سواء كداعم لقيم التطور والنهضة الثقافيتين أو مؤكد لمكتسبات ذلك التطور وتلك النهضة أو ضابط لمعايير لمستوى التغير والتغيير الثقافيين على مستوى القيمة والإضافة. لكن من حضر معرض الكتاب هذا العام سيجد أن المعرض تجرد من كل قيمه الثقافية. فكيف يكون المعرض داعما للحرية الفكرية ومعززا للاختلاف الثقافي وقبول الآخر وممثلا للمواصفات الدولية والصبغة العالمية وال(متشددون) يحيطون به من اليمين والشمال يفرضون عليه الفكر الأحادي ويطالبون بمصادرة الآخر من خلال منع الكتب ولا يحترمون الحرية الشخصية للزائر في شكله وسلوكه؛ إنه اغتيال واضح للمعرض من خلال اغتيال قيمه الثقافية الدولية والعالمية.
وأعتقد أن هذه هي الخطورة؛ فالمعرض هو رمز للتطور الثقافي من خلال مجموع قيمه الذي يتبناه كل من الخطاب الإصلاحي والحوار الوطني، فإذا سُلبت تلك القيم منه تفرّغ من رمزيّته.
وضياع رمزيّته تعني فشل «الخطاب الإصلاحي» في البلد، كما تعني فشل سلسلة الحوار الوطني التي كان آخرها يدعم حرية الاختلاف الفكري، والعودة إلى المربع الأول لسيطرة الفكري الأحادي والإرهاب الفكري. وأعتقد أن كل مثقف حضر «أربعاء الفوضى» سأل نفسه من الذي يقف في الظلام يحاول اغتيال المعرض من خلال تهديد قيمه الثقافية؟
من يتأمل الفوضى التي حدثت في معرض الكتاب واستعمار (متشددين) كل متر مربع من أروقة المعرض ومضايقتهم لزوار المعرض واعتراضهم على كشف وجوه النساء أو المحادثات الثقافية بين المثقفين والمثقفات في أورقة المعرض، لا بد أن يقف عند أربعة أسئلة؛ أولها من هو المسئول عن السماح لذلك الهجوم الهمجي الجماعي المنظم الذي حدث على زوار المعرض يوم «أربعاء الفوضى»؟ وأعتقد أن ليس هناك عاقل يمتلك قليلا من الاستقرائية سيؤمن أن ما حدث في «أربعاء الفوضى» محض صدفة.
وثانيها: من الموجه له تلك الرسالة التي كان تحملها تلك القطعان من الأغنام البشرية التي رعت كما تشاء في أروقة المعرض؟
وثالثها: هل حقيقة هناك صراع ثقافي في المجتمع السعودي؟ وهل ما حدث مؤشر إلى العودة إلى زمن «الخطيئة والتكفير»؟
بعد أن بدأ الكثير منا يؤمن بأن كل من الخطاب الإصلاحي في البلد والحوار الوطني استطاعا أن يوجها الجميع إلى طريق التنوع الثقافي بدلا من الصراع الثقافي وقبول التعددية بدلا من التزمّت الأحادي.
ورابعها: لمصلحة من تخويف المتشددين من الليبراليين، وتخويف الليبراليين من المتشددين؟
وسحب الجميع للعودة إلى طريق الصراع؟
المسألة ها هنا ليست تفتيش في نوايا ما حدث بقدر ما هي مقاربة لمعادلة «الفوضى أو الاستقرار» التي بدأت تظهر برأسها من خلال الأسئلة السابقة لتجعل كل الاحتمالات مفتوحة على تفسير ما حدث، وهو ما يجعلنا نقف كثيرا عند مصطلح «الفوضى» كمعرّف لِما حدث في المعرض.
وهل إعطاء هذا التعريف لما حدث في المعرض له مدلول سياسي خاص يتعلق بما يحدث في بعض الدول المجاورة لنا؟
إن مصطلح الفوضى في حد ذاته كتعريف لما حدث في المعرض يختلف في مدلوله عن مفهوم «الفوضى» الذي أصبح شائعا نتيجة الثورة التونسية والمصرية والليبية؛ فالفوضى هنا ترمز إلى التغيير، لكن الفوضى التي حدثت في معرض الكتاب تشير إلى التطرف والإرهاب.
وأظن أن إعطاء الفوضى هذا المفهوم عندنا هو من أجل «حاجة في نفس يعقوب»!
إن ما حدث في المعرض أكّد للجميع أن السلطة الاجتماعية الأقوى في البلد هي السلطة المحافظة المتشددة وأن الليبراليين وعلى رأسهم معالي وزير الثقافة لا صوت لهم ولا تأثير لهم وأن رجال الدين عندنا يستطيعون أن يفعلوا ما يشاؤون يمنحون ويمنعون دون أن يمنعهم أحد، وأن المثقفين وقفوا أمامهم لا حيلة لهم، يقودهم المحتسبون ورجال الهيئة ويتهجمون عليهم لمجرد وقوف أحدهم مع مثقفة للحديث أو المصافحة أو تناول كتاب منها، وهو ما يعني أن الليبرالية لا تستطيع في المجتمع السعودي أن تمثل سلطة أو تأثير، أو حتى قيمة معارِضة.
أعتقد أن معرض الكتاب هذه السنة أُريد له أن يكون بمثابة «بالون اختبار» للاختيار بين الفوضى أو الاستقرار، وأن السلطة الاجتماعية التي تمثل الأغلبية والتي قد تتحكم في التغيير لن تقبل بأي تنوع ثقافي أو اختلاف فكري أو تؤمن بالآخر.
وإن الليبراليين إذا أصبحوا هم من سيتحكم في التغيير فهم خطر على تقاليد الأعراف الاجتماعية والسلطة الدينية.
ومن قرأ الرسالة التي وجهت لمعالي الوزير خوجة على توتير من قبل أحد المحتسبين يتهم فيه الوزير بالفجور والفسق سيعلم أننا أمام الجيل الثالث من «طالبان السعودية»؟ وغزوات جديدة مع الإرهابيين الجدد.
لكن من القوة التي تساند الجيل الثالث من «طالبان السعودية» ولماذا في هذا الوقت خاصة؟! وأظن أن الجميع قد فهم درس الاغتيال، لكن هل نجح اختبار التخويف؟
وأخيرا: لو كنت مكان وزير الثقافة الدكتور عبد العزيز خوجة، لأقلت المسئول عن إدارة معرض الكتاب مباشرة أو لفرضت عليه أن يقدم استقالته نتيجة «أربعاء الفوضى»، فكأننا في بلد لا يُعاقب فيها المخطئ!
sehama71@gmail.com
جدة