لن أبالغ مع أن لي الحق في كل ما يمكن أن أسجيه على وطني من حب واعتزاز، ولن أقلل من جهود الآخرين بقدر ما اعتز بها لكنني اشعر بالغبطة كثيرا حينما أرى ما افتقده في وطني حاضراً في أوطان اقل بكثير مما ننعم به من قدرات وإمكانات.
تحدثت في موضوع سابق عبر زاوية للرسم معنى في صفحة الفنون الجميلة في ثقافة الجمعة مطالبا بإيجاد متحفا للفن التشكيلي واستشهادي بما رأيته من الاهتمام في هذا الجانب في عدد من دول الخليج أو ما شاهدته في متحف الأردن الوطني للفنون، أعود للحديث من جديد عن مصر أم الدنيا والإبداعات والفنون والآثار مجدداً من خلال جولة سريعة على بعض من متاحفها ما أضفى جديدا على معرفتي السابقة بها، لكن الأمر لا يتعلق بالمباني وبما تحتويه من كنوز بل بتكاملها مع الإنسان الذي أبدعها (وأعني بها الفنون التشكيلية)، هذا الإنسان الذي أبقى بها اثرا له وتخليدا لعطائه.
فالزائر التشكيلي لقاهرة المعز لا يمكن أن يودعها إلا وقد اختزل من متاحفها التشكيلية ما يمد عطاءه بالتجارب والخبرات، أسماء رائدة بجانب أجيال جديدة وأساليب تؤرخ المكان والزمان وأخرى تكشف مدى قدرة الإنسان المبدع على التعامل مع معطيات مرحلته وعصره، معارض هنا وهناك، وحضور ومنافسة وإبداع لا ينضب، حوارات وندوات ولقاءات تجمع أطياف الفنانين.
وجبات متكاملة الفائدة تجمع بين ثناياها كل المكونات من رواية ولوحة وقصيدة وتأليف درامي إلى آخر المنظومة يلتحم بعضها ببعض في مكان واحد، كل يدلي بدلوه ويأخذ مساحته من البوح.
متاحف وقاعات وسباق مع الزمن
مجرد النظر إلى الإصدار المعنون بدليل المتاحف الفنية والقومية ومراكز الفنون في مصر يجعل الزائر المختص بالفنون والثقافة البصرية في حيرة من امره ويجد التردد في أي منها يبدأ فيصبح في حالة من السباق مع الزمن لمشاهدة اكبر قدر من هذه المواقع والاماكن المهمة، وسأستعرض لكم ما يتضمنه الدليل لتروا معي هذا الزخم وتلك الوجبات الشهية للوجدان والعقل, خمسة وثلاثون عنوانا لمتاحف فنية وقومية ومراكز فنون ومراكز للانتاج الفني، منها على سبيل المثال متحف الفن المصري الحديث، متحف محمد محمود خليل وحرمه، متحف المثال محمود مختار، متحف الفنان محمود ناجي، متحف الفنانة انجي افلاطون, متحف ومكتبة الفنون التشكيلية بالاسكندرية، متحف الفن والحديقة، مركز الفنون بالزمالك مركز الجزيرة للفنون، قصر الفنون، مركز الفنون المعاصرة
اتيليه القاهرة.. تحدٍ وإصرار
قبل ان اتحرك نحو بعض من المرافق والمؤسسات والمعالم التشكيلية في القاهرة كنت احمل في ذاكرتي الواقع الذي تعيشه ابداعاتنا هنا في المملكة واضعاً قدرا من التوقعات لتكون منطلقا للمقارنة، جاعلاً من اتيليه القاهرة اول محطات زياراتي السريعة التي اقتنصها من المهمة التي كلفت بها لمتابعة تغطية جناح المملكة في معرض القاهرة الدولي للكتاب. وصلت الاتيليه الذي يقع في وسط القاهرة وقت الغروب بعد جهد كبير من السائق وشطارة عُرف بها كل السائقين هناك لتجاوز زحام الشوارع تفاجأت بحجم المبنى وموقعه الذي قلب موازين تخيلي السابق طبقا للشهرة الكبيرة التي منحت لهذا المكان الرمز او المعلم الابداعي الذي تعدت شهرته حدود العالم العربي، تجولت في المعارض الثلاثة المقامة في قاعات ذات مساحات متواضعة لكنها غنية بمحتواها تنوعت الاعمال المعروضة في الخامات والمضمون اثنان تصوير زيتي والثالثة اعمال خزفية منها معرض للفنان التشكيلي الكبير مجاهد العزب ومعرض للفنانة شرين محمود يحمل عنوان مسوخ قالت عنه في بروشور المعرض مسوخ تحاصرني... تتكرر، تتداخل، تتحد... ماذا يحدث؟!!... أشعر بغربة... وجوه تزاحمني أفتش عن شيء من الراحة في كل وجه أراه... هو وجه واحد لا ارى سواه... وجه ممسوخ يؤلمني... يرعبني... يحطمني تتغير هيئته... فيطمئنني اعود وابحث من جديد, اعود... لأرى نفس المسخ المقيت, يكمم فمي حتى لا أعلن عن وجوده... يحاول قتلي في بحر الصمت..... ولكن لا لن أصمت بعد الآن... اصبحنا مسوخا!! متبلدة... ومريضة...أفيقوا!!... اخرجوا المسخ إلى السطح ليحيا الانسان... ارسموا القبح على ملامحكم!! فليحيا القبح على صورنا... ويموت الشر بداخلنا... فليمت!!...أنا قد اخترت!!... اخترت أن أحيا... حياة المسخ الجميل...
لم أجد حضوراً لافتاً لهذه المعارض لكنني وجدت لقاء في صالة الاتيليه التي تقع في الدور الأرضي مقابل الباب الرئيسي جمعت عددا من الكتاب والروائيين يتبادلون الأحاديث في وقت انشغل فيه المسؤولين في الاتيليه للإعداد لندوة في الدور الاول افتقدت من بينهم الفنانين التشكيليين، الحقيقة لم اكن في حاجة ماسة لمعرفة هذا المكان وتاريخه كما يعرفها كل التشكيليين المتابعين والحريصين على الإلمام بإبداعهم والثقافة فيه، ولكني شعرت بالغبطة وهي تمني ما لدى الآخر دون زواله وأعني بذلك ما يحمله المنتمين لهذا المكان من حرص على بقائه والتصدي للظروف التي عصفت به كما قرأنا عنها في كثير من الأخبار والمقالات وما جرى من قضايا تتعلق بمجلس إدارته والآراء حولها او ما لحق المقر من مشاكل الإيجار والمديونيات ومع ذلك لا زال واقفا على قدميه محافظا على كيانه.
صيانة وترميم ومتحف حديث
* مررت بعدد من القاعات والمتاحف الا ان حالة الترميم والصيانة قد ادت إلى اقفالها ولم اجد في هذا الوقت الا البحث عن بديل سريع فكانت وجهتي إلى دار الاوبرا بهيبتها وبما تشتمل عليه من كنوز ابداعية جمعت فيها جمال المبنى بالمعنى والمضمون معلماً لا يهرم او يشيخ هذا هو كما عهد وشوهد في كل زمان متألقا لا يقل في نظري عن قيمة الاهرامات او ابو الهول فلكل عصر عجائبه ورموزه، كانت زيارتي لمتحف الفن المصري الحديث المجاور للاوبرا هذا المتحف الذي لا يمكن لفنان تشكيلي او عاشق للفنون الا ويمر به ويتجول بين قاعاته التي تحتل ثلاثة أدوار صمم المتحف بأسلوب معاصر وثوب جديد أعاد إليه حيويته وشبابه رغم بلوغ عمره منذ انشائه ما يقرب الخمسة والسبعين عاماً، محتضنا ما حمل عنوان (الفن اليوم منذ العام 1975 وحتى الألفية الثالثة) - يجمع اعمال الفنانين المصريين ابتداءً من الرواد الأوائل، مروراً بالاجيال اللاحقة وصولاً إلى الجيل الجديد.
حيث تستقبلك في القاعة الرئيسية روائع رواد الفن المصري منها اعمال التصوير الزيتي للفنانين محمود سعيد، وراغب عياد - واعمال النحت للمثال محمود مختار لم يتوقف عطاء المتحف واهدافه عند حدود عرض الاعمال بقدر ما فتح آفاقاً جديدة من فرص اقامة الورش الفنية في البحث والدراسات عن الاعمال وعن مسيرة الفن المصري وخصص لهذه المهمة قاعة باسم، قاعة أبعاد كما أنشئت قاعة الجماعات الفنية لتعريف الباحثين والدارسين على تاريخ ومسيرة حركة الفن المصري منذ إنشاء جماعات الفن في العشرينيات من القرن الماضي.
ولم يغفل المعنيون بالمتحف أهمية مسايرة الجديد في الفنون وقاعة تخصص فوضعوا في الاعتبار الاهتمام بفنون الحداثة وتقنياتها.
بعد تسديد رسوم الدخول شعرت أنني أمام بوابة تاريخ الفن المصري استعدت خلالها قصة هذا المتحف التي تحمل الفكرة ومن ورائها، والدعم ومدى الوعي الحضاري من قبل المسؤولين بأهمية هذا الفن
* فقد انطلقت فكرة المتحف من محمد محمود خليل المشهور بمجموعته الفنية الرفيعة التي أهداها للدولة لتصبح متحفاً يحمل اسمه وحرمه (سنتحدث عنه في الحلقة القادمة)، تقول النشرة الخاصة بالمتحف إن محمد محمود خليل نجح في إقناع السراى بإصدار مرسوم ملكي بتشكيل لجنة استشارية لرعاية الفنون الجميلة، تتبع وزارة المعارف العمومية، وأوصت هذه اللجنة بإنشاء متحف الفن الحديث بالقاهرة، يضم مقتنيات الوزارة مما تقتنيه من صالون القاهرة السنوي الذي تنظمه جمعية محبي الفنون الجميلة، لعرض أعمال الفنانين المصريين والأجانب.
وفي العام نفسه تم تجميع الأعمال الفنية التي تم اقتناؤها من صالون القاهرة في قاعة صغيرة بمقر جمعية محبي الفنون الجميلة بسراى تيجران بشارع إبراهيم باشا (الجمهورية الآن)، ثم أضيف إلى هذه المجموعة المحدودة بضع لوحات وتماثيل، ثم انتقلت المجموعة بعد ذلك إلى موقع متحف الشمع الذي أنشأه فؤاد عبد الملك سكرتير جمعية محبي الفنون الجميلة وراعى الفنانون في مقر عائلة موصيري) - ليصبح أول مبنى يحمل اسم متحف الفن الحديث بمصر. وفي الفترة من 1927 حتى 1935 بلغ عدد الأعمال الفنية المقتناة للمتحف 51 لوحة تصويرية لفنانين مصريين، وثلاثة تماثيل للفنان محمود مختار، و63 لوحة لفنانين أجانب مقيمين في مصر. وفي 8 فبراير 1931 أوكل إلى إدارة الفنون الجميلة إعادة تنظيم المتحف، ونشر أول دليل للمتحف يومئذ - حيث كان يضم 584 عملاً فنياً - وفي عام 1935 صدر آخر دليل لمتحف الفن الحديث يضم 224 صفحة منها 82 صورة لمختارات من مقتنيات المتحف، وقد طبع الدليل باللغة العربية مع ترجمة فرنسية ثم نقلت وزارة المعارف المتحف إلى مقر آخر في شارع البستان في فبراير 1936. ثم انتقل المتحف بعد ذلك إلى قصر الكونت (زغيب) بجوار قصر هدى شعراوي في 4 شارع قصر النيل عند مدخل الشارع من ميدان التحرير وقد شغل المتحف 44 غرفة في القصر بالإضافة إلى المدخل والممرات. وفى عام 1963 أغلق المتحف حيث تم هدم مبناه العريق والمكتبة الملحقة به، وفي عام 1966 انتقلت المجموعة المصرية من مقتنيات المتحف إلى مقر مؤقت في فيلا إسماعيل أبو الفتوح ميدان فيني (ميدان السد العالي حالياً)، بينما انتقلت أعمال الفنانين الأجانب إلى متحف الجزيرة للفنون الذي سرعان ما أغلق لسوء حالته مما عرض المقتنيات ذات المكانة العالمية التي تمثل ثروة قومية نادرة لبعض الأضرار، كما تعرضت أعمال الفنانين المصريين التي خزنت لمدة عامين قبل نقلها إلى فيلا الدقي إلى تلف بعضها، وغموض مصير بعضها الآخر وفي عام 1983 تم تخصيص سراي 3 بدار الأوبرا لكي تكون مقر المتحف الجديد.
(الأسبوع القادم نكمل الجولة)
monif@hotmail.com